تجنب المصالح وتدرء المفاسد على الإقتصاد فيهما
هذه قاعدة من قواعد المقاصد الخاصة بكيفية تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فالمرء بطبيعته ساع في تحصيل مصالحه وهو في ذلك مظنة الإسراف والاعتداء، والشرع يرشده إلى الاعتدال في ذلك. فهذا
سلطان العلماء ابن عبد السلام يقرر بعد أن ضرب أمثلة كثيرة للتوسط في جلب المصـالح أن «الأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله الظـاهرة والباطنة إلا بما فيه جلب مصلحة عاجلة أو آجلة أو درء مفسـدة عاجلة أم آجلة مع الاقتصاد المتوسط بين الغلو والتقصير..»
>[1] .
قال
الحجوي ، رحمه الله: «جاء الدين بتأييد قانون الفطرة، أعني القانون الذي هو حفظ الذات المبني على جلب اللذات ودفع الألم، فطرة الله التي فطر الناس عليها، إذ كل إنسان مجبول بفطرته على الجهاد في سبيل جلب المصلحة، أعني اللذة، ودفع المفسدة وهي الألم. فجاء الشرع لتأييد ذلك ولكن باعتدال بحيث لا يخرج إلى حب الذات وهو عدم الاكتراث بصالح العموم، ثم أرشـدنا إلى ما هي المصـالح وما هي المضـار، وإلى طريق الجلب والدفع؛ لأن الإنسـان قد يغلط في الطرق الموصلة لهما، فالشرع حكيم كالطبيب العارف بقوانين حفظ الصحة ودفع المرض، ودليل مرشد
[ ص: 153 ] إلى ما هي اللذة الحقيقية والطريق الحقيقي الموصل لجلبها فيأمر بها ويرشد إلى القدر الذي لا يضر منها ليتناولها باعتدال، كإباحته الاكتساب ونهيه عن الشره والجشع والغش والتدليس ونحوهما، وكإباحة التنعم بالطيبات ونهيه عن السرف، مثل الطبيب الذي ينهي عن الشـبع خوف التخمة، ومرشـد إلى ما هو الألم الحقيقي والطريق الموصل إلى دفعه..»
>[2] .
ويؤيد هذه القاعدة من قواعد التوسط أن الخراج بالضمان ، والغرم بالغنم :
وهما قاعدتان فقهيتان تفيد كل واحدة منهما عكس ما تفيده الأخرى، وكلاهما تعبير عن المنهج الوسط بين تحمل الأعباء، وتحصيل المنافع، ويظهر ذلك ببيان معناهما:
أما قاعدة «الخراج بالضمان» فمعناها، كما قال
الزركشي ، رحمه الله، أن «ما خرج من الشـيء من عين ومنفعة وغلة، فهو للمشـتري عوض ما كان عليه من ضمان الملك، فإنه لو تلف المبيع كان في ضمانه فالغلة له، ليكون الغنم في مقابلة الغرم»
>[3] . وهذا المعنى هو ما يوضحه سبب ورود الحديث الوارد بهذا الشأن:
( أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شـاء الله أن يقيم ثم وجد به عيبا، فخاصـمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فقال الرجل: [ ص: 154 ] يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخراج بالضمان ) >[4] . فأنت إذا تأملت في القاعدة رأيت أن مبناها على العدل والموازنة بين امتلاك المنافع وضمانها، وهذا ما تقتضيه الحكمة، إذ ليس من العدل أن نحكم بالمنع من ملك المنفعة أو الحق في الانتفاع، ثم إذا وقع هلاك العين أو تلفها حكمنا حينئذ بضمانها، وإخراجها من ملك المشتري، فحتى لا يختل ميزان التعادل وجب القول: إن من وضع يده على شيء استلزم ضمانه إذا ضاع في تلك اليد، ومقابل ذلك: فإن لصاحب اليد خراج الشيء الذي هلك في يده وفي ذمته.
وأما قاعدة « الغرم بالغنم » فمعناها: أن «الغرم» وهو ما يلزم المرء لقاء شيء من المال أو نفس مقابل «بالغنم»، وهو ما يحصل له من مرغوبه من ذلك الشيء
>[5] ، أي: أن التكاليف والخسارة التي تحصل من الشيء تكون على من ينتفع به شرعا
>[6] ، وهذا المعنى وإن كان مستفادا بالمفهوم من القاعدة السابقة، إلا أن النص عليه يؤكد حرص الفقهاء على مراعاة العدل ومقتضيات الحكمة والاعتدال، ولا يقال إن ذلك يرجع إلى اختلافهم في الأخذ بالمفاهيم في نصوص الشارع، مما دفعهم إلى التنصيص على المعنى
[ ص: 155 ] المقابل، لأنا نقول: إن شيوع القاعدة على ألسنة الفقهاء وفي مصنفاتهم وتجريدها من أصلها الذي انتزعت منه، يجعلها في العرف الغالب من كلام الناس وخطاباتهم، ومعلوم أن الحنفية والجمهور جميعا متفقون على الأخذ بالمفهوم في كلام الناس. ويجمع هاتين القاعدتين معا قول الفقهاء: « النعمة بقدر النقمة والنقمة بقدر النعمة »
>[7] .
والجملة الأولى مرادفة لقاعدة « الخراج بالضمان »، والجملة الثانية مرادفة لقاعدة « الغرم بالغنم »، وكأنهم لم يكتفوا بالنص على كل معنى على حدة، فجمعوا ذلك في هذه العبارة ترسيخا وتـثبيتا لمعنى العدل والاعتدال في تحمل الأعباء وتحصيل المنافع، وقد رأى
الشيخ الزرقاء ، رحمه الله، معنى زائدا على مجرد الترادف فأخذ من لفظ «بقدر» في العبارة، ما يشعر بأن كون الخراج لقاء الضمان ، وكون الغرم لقاء الغنم ينبغي أن يكون أحدهما بقدر الآخر فيما يمكن فيه محافظة التقدير
>[8] ، وهو ملحظ قوي يزيد في تأكيد معنى الموازنة والحفاظ على إقامة الميزان بالقسط في مقابلة المنافع بالضمان، وذلك بمراعاة «قدر» كل منهما ما أمكن ذلك، فإن الأجر على قدر النصب، فتأكد بهذا ابتناء هذه القواعد متفرقة ومجتمعة على التوسط والاعتدال.
[ ص: 156 ]