استقم كما أمرت فإن أعظم الكرامة لزوم الاستقامة
الاستقامة من مقتضيات التوسط، ومن الناس من يفسر الوسطية بالاستقامة على المنهج، وقد قدمنا هذا المعنى سابقا، ومن ثم فإن هذه القاعدة من باب توارد الأدلة على المعنى الواحد..
قال الله تعالى:
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم ) (فصلت: 30-32) ،
وقال تعالى:
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) (الأحقاف: 13-14) .
قال الراغب: استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو:
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) (فصلت:30)
>[1] . وقال
ابن القيم : الاستقامة ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء
>[2] .
وقال
البقـاعي في قوله تعالى:
( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ) (هود: 112) : «والاستقامة:
[ ص: 182 ] الاستمرار في جهة واحدة. ولما كانت وسطا بين إفراط وتفـريط وكان التفريط لا يكاد يسلم منه إلا الفرد النادر، وهو في الأغلب يورث انكسار النفس واحتقـارها والخـوف من الله، وكان الإفراط يورث إعجـابا، وربما أفضى بالإنسان إلى ظن أنه شارع فينسلخ لذلك من الدين، طوى التفـريط ونهى عن الإفراط فقال:
( ولا تطغوا ) ، أي تتجـاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطا، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهـاكم لتهذيب نفوسكم لا لحاجته إلى ذلك ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره، والدين متين لن يشاده أحد إلا غلبه، فقد رضي منكم سبحانه الاقتصاد في العمل مع حسـن المقاصـد، ويجوز أن يكون المعنى: ولا تبطركم النعمة فتخرجكم عن طـريق الاسـتقامة يمنة أو يسـرة. ولما نهى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحا، فأفهم النهي عن التفريط، وهو النقص عن المأمـور تلويحا من باب الأولى، على ذلك، مؤكدا تنـزيلا لمن يفرط أو يفرط منـزلة المنكر فقال:
( إنه بما تعملون ) ، فقدم الظرف لما تقدم من تأكيد الإبصار
( إنه بما تعملون بصير ) (هود:112) »
>[3] .
وقال
القرطبي : الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال
>[4] .
[ ص: 183 ] وقال
ابن القيم : قال عمر، رضي الله عنه ، الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب
>[5] . . وقال أيضا: فأمر بالاستقامة وهي السداد، والإصابة في النيات والأقوال والأعمال.. ثم قال: فالاستقامة: كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد
>[6] .
وهذه المعاني متقاربة، ويفسر بعضها بعضا.
وفي صحيح
مسلم ( عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه ، قال: قلت يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك؟ قال: قل آمنت بالله، ثم استقم ) >[7] . .
( وعن ثوبان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصـلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) >[8] . . وفي مسند
الإمام أحمد ( عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) >[9] .
وفي رواية
الترمذي ( عن أبي سعيد رضي الله عنه ، مرفوعا وموقوفا: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ) >[10] .
[ ص: 184 ] " وسئل
الصديق رضي الله عنه ، عن الاستقامة فقال: ألا تشرك بالله شيئا. " قال
ابن القيم : يريد الاستقامة على محض التوحيد
>[11] .
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية : أعظم الكرامة لزوم الاستقامة
>[12] .
وأختم الكلام عن الاسـتقامة بما قاله ابن القيم في مدارج السـالكين
>[13] مما يتضح معه علاقة الاسـتقامة بالوسطية، وأنه لا استقامة بلا وسطية، ولا وسطية دون استقامة.
قال، أي
أبو إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين: وهي -أي الاستقامة- على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، لا عاديا رسم العلم، ولا متجاوزا حد الإخلاص، ولا مخالفا نهج السنة.
قال ابن القيم شارحا قول الهروي: هذه درجة تتضمن ستة أمور: عملا واجتهادا فيه، وهو بذل المجهود، واقتصادا، وهو السلوك بين طرفي الإفراط -وهو الجور على النفس- والتفريط بالإضاعة.
ووقوفا مع ما يرسمه العلم، لا وقوفا مع داعي الحال، وإفراد المعبود بالإرادة، وهو الإخلاص.
ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة. فبهذه الأمور الستة تتم لأهل هذه الدرجة استقامتهم، وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة، إما خروجا كليا، وإما خروجا جزئيا.
[ ص: 185 ]