الإكثار من الاعتبار يقلل العثار
من متطلبات الوسطية وضماناتها مراجعة الذات من حين لآخر للتأكد من صـحة الطريق والنظر في العواقب، فإن الخطأ من لوازم البشرية، ولا استقامة بالسير مع الخطأ، فاقتضى ذلك الإكثار من الاعتبار لتقليل العثرات.
وهذا المعنى مما فصله
الماوردي في أدب الدنيا والدين فقال: «.. وينبغي أن يقسم حالة تصرفه ويقظته على المهم من حاجاته فإن حاجة الإنسان لازمة والزمان يقصر عن استيعاب المهم، فكيف به إن تجاوز إلى ما ليس بمهم، هل يكون إلا: كتاركة بيضها بالعراء وملبسة بيض أخرى جناحا؛ ثم عليه أن يتصفح في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن الليل أخطر للخاطر وأجمع للفكر.. فإن كان محمودا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموما استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل.. فإنه إذا فعل ذلك وجد أفعاله لا تنفك من أربعة أحوال: إما أن يكون قد أصاب فيها الغرض المقصود بها، أو يكون قد أخطأ فيها فوضعها في غير موضعها، أو يكون قصر فيها فنقصت عن حدودها، أو يكون قد زاد فيها حتى تجاوزت محدودها.
وهذا التصفح إنما هو استظهار بعد تقديم الفكر قبل الفعل ليعلم به مواقع الإصابة وينتهز به استدراك الخطأ.. وقد قيل: من كثر اعتباره قل عثاره.
وكما يتصـفح أحوال نفسـه فكذا يجب أن يتصفح أحوال غيره، فربما كان استدراكه الصواب منها أسهل بسلامة النفس من شبهة الهوى، وخلو الخاطر من حسن الظن، فإن ظفر بصواب وجده من غيره، أو أعجبه
[ ص: 202 ] جميل من فعله زين نفسه بالعمل به.. فإن السعيد من تصفح أفعال غيره فاقتدى بأحسنها وانتهى عن سيئها.
وقد
( روى زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: السعيد من وعظ بغيره ) >[1] . وقال الشاعر:
إن السعيد له من غيره عظة وفي التجارب تحكيم ومعتبر
وأنشدني بعض أهل العلم لطاهر بن الحسين:
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجـبك
فليس على المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
فأما ما يرومه من أعماله، ويؤثر الإقدام عليه من مطالبه، فيجب أن يقدم الفكر فيه قبل دخوله، فإن كان الرجاء فيه أغلب من الإياس منه وحمدت العافية فيه سلكه من أسهل مطالبه وألطف جهاته. وبقدر شرفه يكون الإقدام، وإن كان الإياس أغلب عليه من الرجاء مع شدة التغرير ودناءة الأمر المطلوب فليحذر أن يكون له متعرضا. فقد
( روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا هممت بأمر ففكر في عاقبته فإن كان رشدا فأمضه، وإن كان غيا فانته عنه. )
وقالت الحكماء: طلب ما لا يدرك عجز.
وقال بعض الشعراء:
فإياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر
>[2] .
[ ص: 203 ]