الأفعال مختلفة الأحكام بحسب الكلية والجزئية، فمن لم يراع ذلك أفرط أو فرط
هذه القاعدة الأصولية بيان وتقرير للاعتدال في الحكم على أفعال المكلفين وفي تنـزيلها على ما يقتضيه نوع رتبتها بحسب ما تعطيه تصرفات الناس بحسب الكلية والجزئية.
فالزواج مثلا في حـق الفـرد الواحد من الناس قد يكون مباحا واجبا أو مندوبا أو مكروها أو حراما، بحسب حاله وظروفه، ولكن الحكم لا يكون كذلك إذا نظرنا إليه بحسب تعلقه بأهل قرية أو مدينة أو بالناس جميعا.
ويأتي التفريط والإفراط من حيث تسوية حكم الجزئي -كاللعب مرة أو مرات متفرقة- بحكم الكلي، وفي ذلك قلب لأوضاع الشريعة ومناقضة لمقاصدها كما هو واضح.
وقد استدل
الإمام الشاطبي ، رحمه الله، لهذه القاعدة بجملة من الأدلة، من ذلك
>[1] : «..إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة فقد يطلب الدليل على صـحتها، والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير، بل هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها، ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب وانشراح الصدر فيدل على ذلك جمل: منها ما تقدمت الإشـارة إليه في التجـريح
[ ص: 215 ] بما داوم عليه الإنسـان مما لا يجرح به لو لم يداوم عليه، وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجـملة، ولولا أن للمداومة تأثيرا لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه وما لم يداوم عليه من الأفـعال، لكنهم اعتبروا ذلك، فدل على التفرقة، وأن المداوم عليه أشد وأحرى منه إذا لم يداوم عليه، وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية، وهذا المسلك لمن اعتبره كاف.
ومنها أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق، وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات، إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها، ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك، بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد ...
ومنها ما جاء في الحذر من زلة العالم في علمه أو عمله ... والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية، وهو المطلوب».
وفي ختام هذا البحث أسأل الله العظيم أن ينفع به كاتبه وقارئه والناظر فيه، وأن يجعله في ميزان حسناتنا يوم الدين، إنه هو السميع العليم.
إن أصبت فمن الله وحده، وإن أخطأت فذلك مبلغ علمي، وأستغفر الله منه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى التابعين بإحسان إلى يوم الدين.
[ ص: 216 ]