3- سوء التقدير، أو الإعجاب والاغترار بالقوة
ويقصد بذلك أحد أمرين:
الأول: الاستخفاف بقوة الطرف الآخر؛ أو التصور أنه لن يتخذ إجراء ضده؛ لأنه لن يجد عنه بديلا.
الثاني: المغالاة في تقدير القوة الذاتية، والثقة الزائدة في النفس إلى حد غير منطقي، ومن شأن هذا السـلوك أن يؤدي إلى عدم التخطيـط الجيد بما يقود لأزمات، بقطع النظر أن كان الفريق مسلما أم غير مسلم، فإذا اغتر غير المسلم واستخف بقوة الطرف الآخر فهو معرض لأزمة، وكذا لو أن
[ ص: 54 ] المسلم استخف بقوة خصمه فهو معرض لأزمة، فهذه الأسباب الكونية تجري على المسلم وغيره، ولا يعد الإيمان عاصما من حدوث الأزمة، كما يتضح في المثالين الآتيين:
أ- ما حدث مع كفار قريش في غزوة بدر
فقد حملهم الغرور بقوتهم على الاستخفاف بغيرهم، فلم يعدوا للمعركة بالتخطيط اللازم، وكان هذا من أسباب هزيمتهم، وقد نبه القرآن إلى أسباب هزيمة قريش، ودعا المسلمين إلى الحذر من هذه الأمـراض الإدارية،
فقال:
( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط *
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ) (الأنفال:47-48).
وهذا الاغترار بالقوة يعود إلى عدم الفقه الإداري، وهو علة الهزيمة كما صرح القرآن في قوله تعالى:
( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) (الأنفال:65)،
والعبارة القرآنية:
( بأنهم قوم لا يفقهون ) نص واضح على أن علة الهزيمة عدم الفقه، ودلالة العبارة واسعة تتسع لما ذكره المفسرون من معان من أنهم يقاتلون على غير بصيرة الشوكاني، فتح القدير (بيروت: دار الفكر) 2/324. ، أو أنهم لا يفقهون الثواب والعقاب
[ ص: 55 ] فيقل ثباتهم
>[1] ، كما تتسع لمعنى إداري أوسع وهو عدم الفقه بأسباب النصر وأسباب إدارة الأزمة، ومهارات إدارة الصراع.
ومظاهر عدم الفقه الإداري، الذي تتكلم عنه الآية، ما روته السيرة من قول أبي جهل لما علموا بعودة القافلة واقترح بعضهم عودة الجيش، قال ابن اسحق: ولما رأى أبو سفيان بن حرب أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: «إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها»
>[2] . فمن يدخل المعركة لتغنيه القيان لا يفقه قواعد إدارة المعركة، وتجري عليه قوانين الهزيمة
( ولا يظلم ربك أحدا ) (الكهف:49).
ويكشف لنا الواقدي في كتاب المغازي عن الحالة النفسية التي دفعت أبا جهـل لاتخاذ قرار خاطئ بخـوض المعركة؛ إذ ينقل عن أبي سفيان أنه لما وصل الرسول إلى أبي سفيان وأعلمه عن مضي قريش للمعركة «فقال: واقوماه، هذا عمل عمرو بن هشام -أي أبو جهل- كره أن يرجع لأنه قد
[ ص: 56 ] ترأس على الناس وبغى، والبغي منقصة وشؤم؛ إن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة»
>[3] .
فأبو سفيان يدرس كلفة تنفيذ الهدف، ويدرس السيناريو المحتمل للنجاح والفوز، ويفكر ماذا لو نجحنا وماذا لو لم ننجح؟ ثم يتخذ القرار، فيرى أن اتخاذ قرار المعركة فيه احتمال الفشل، وفي هذه الحالة سيكون هذا الفشل له تبعاته التي لن تتوقف إلا بدخـول الرسـول صلى الله عليه وسلم مكة؛ ولذا فهو لا يرى خيار الحرب.
أما أبو جهل فكان في حالة نشوة وسكر من أثر ترؤسه لقومه بما منعه من إدراك النتائج، فبغى وحاد عن القرار الصائب. وهذه مسألة خطيرة؛ إذ يصيب بعض الناس نشوة المنصب فيخرج عن حد الاتزان، وبعضهم تصيبه نشوة النصر والفرح فتخرجه عن الاتزان، ولهذا وجهنا القرآن إلى ضبط انفعالنا في الفرح فقال سبحانه:
( إن الله لا يحب الفرحين ) (القصص:76)، والمقصود هنا الفرح المذموم، الذي يخرج بصاحبه عن حد الاتزان ويدفعه للغرور، كحال قارون الذي وردت الآية في مناسبته.
ب- ما حدث في غزوة حنين:
مما نبه القرآن الكريم إليه:
( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ) (التوبة:25)، وغالبا ما يكون الاغترار في
[ ص: 57 ] حال القوة العسكرية، أو الوفرة المالية، والسبب في ذلك هو ما تعطيه الوفرة المالية والعسكرية من شعور بالاستغناء، وهذا الاستغناء إذا غاب عنه العنصر الإيماني يولد الطغيان،
كما قال سبحانه:
( كلا إن الإنسان ليطغى *
أن رآه استغنى ) (العلق:6-7)؛
وتجد في قوله تعالى:
( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا *
وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) (الكهف:35-36)،
أنموذجا واضحا للاغترار وكيف أدى بصاحبه إلى الكارثة؛ فقد أدى به اغتراره إلى خطأ في تحليل المعلومات؛ إذ ظن أن ما أعطاه الله إياه في الدنيا دليل على أن الله سيعطيه مثله في الآخرة، مع أن المنطق العـلمي يقول: إن هذه نعمة تستوجب الشكر، وكما قال صلى الله عليه وسلم:
( إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ) >[4] .
ومما نبه إليه القرآن في موضوع سوء التقدير قوله تعالى:
( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) (البقرة:266)،
فالآية تتحدث عن رجل عنده مزرعة
[ ص: 58 ] وفيرة، يعدها لكبره، غير أنه أساء التقدير، وظن أنها آمنه في وجه عوامل الزمن، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، وقد وظف القرآن الكريم هذا المثال للتحذير من عاقبة المنة على من نتصدق عليهم؛ لأن هذا الامتنان بحد ذاته يمكن أن يؤدي إلى أزمة حين يشعر الطرف الآخر بجرح كرامته، فإما أن يضمر الأذى أو يشعر بالاغتراب في مكان العمل، بما يهيئ بيئة مناسبة تلج منها الأزمات، والقرآن بهذه التوجيهات يحصن الأمة، ويبني عندها حصانة إدارية في مواجهة نقاط الضعف التي تلج منها الأزمة.