ب- الجويني والتعامل مع عجز الموازنة:
يعد عجز الموازنة أزمة فعلية تواجه الدولة، وفي سبيل توفير بدائل لا بد أن يراعى شرعية المصدر وصحة الإجراء من ناحية قانونية حتى لا تدخل الدولة في أزمة قانونية تزيد المشاكل التي تواجهها.
ويعالج الجويني حكم توفير مصادر دخل لتمـويل العمليات الجهادية إذا عجزت الموازنة عن دفع الكلفة، ويحاول الجويني أن يقدم حلا شرعيا متمثلا بفرض ضرائب على المواطنين، ويقيم الدليل على جواز ذلك، ولكنه يضع ضوابط لفرض الضرائب تعتمد قرب الخطر أو بعده، فيقول:
«فأما الفصل الثالث منها، وهو أهمها، فالغرض ذكر ما يقتضيه الإيالة الشرعية والسياسة الدينية فيه إذا اصفرت يد راعي الرعية عن الأموال والحاجات ماسة فليت شعري كيف الحكم وما وجه القضية؟ فإن ارتقب الإمام حصول أموال في الاستقبال ضاع رجال القتال وجر ضياعهم أسوأ الأحوال، وإن استرسل في مد اليد إلى ما يصادفه من مال من غير ضبط الشرع في الأقوال والأفعال، وقد قدمنا حينما سبق أنا لا نحدث لتربية [ ص: 161 ] الممالك في معرض الاستصواب مسالك لا نرى لها من شرعة المصطفى مدارك، فإن بلى الإمام بذلك فليتئد، ولينعم النظر هنالك، فقد دفع إلى خطتين عظيمتين: إحداهما تعريض الخطة للضياع.. والثانية أخذ مال في غير استناد استحقاقه إلى مستند معروف مألوف، والله ولي التوفيق والتيسير وهو بإسعاف راجيه جدير فنقول:
«إذا خلا بيت المال انقسمت الأحوال، ونحن نرتبها على ثلاثة أقسام ونأتي في كل قسم منها بما هو مأخذ للأحكام، ونمزج القضايا السياسية بالموجبات الشرعية، فلا تخلو الحال وقد صفر بيت المال من ثلاثة أنحاء:
أحدها: أن يطأ الكفار، والعياذ بالله، ديار الإسلام.
والثاني: لا يطأوها ولكنا نستشعر من جنود الإسلام اختلالا ونتوقع انحلالا وانفلالا لو لم نصادف مالا، ثم يترتب على ذلك استجراء الكفار في الأقطار وتشوفهم إلى وطء أطراف الديار، وهذه الحالة تظهر فيها إشارات إنذار مبكر للأزمة، لكن الأزمة لم تقع بعد.
والثالث أن يكون جنود الإسلام في الثغور والمراصد على أهب وعتاد وشوكة واستعداد ولو وقفوا ولو ندبوا للغزو والجهاد لاحتاجوا إلى ازدياد في الاستعداد وفضل استمداد، ولو لم يمدوا لانقطعوا عن الجهاد».
وهنا نرى الجويني يطبق منهجا علميا في دراسة البدائل والاحتمالات، ثم يقول: [ ص: 162 ]
«فهذه التقاسيم قاعدة الفصل، فلنقل فيها أولا ولنذكر في كل قسم منها معولا ثم ننظر إلى ما وراءها، والله المستعان على ما نحاوله من بيان.
فأما إذا وطئ الكفار ديار الإسلام فقد اتفق حملة الشريعة قاطبة على أنه يتعين على المسلمين أن يخفوا ويطيروا إلى مدافعتهم زرافات ووحدانا حتى انتهوا إلى أن العبيد ينسلون عن ربقة طاعة السادة ويبادرون الجهاد على الاستبداد».
وهنا نرى إشارة لفكرة الحشد والإعداد لمواجهة الأزمة -وهي حالة التعامل مع الأزمة، فهنا يجوز للإمام أن يفرض أموالا على الأغنياء؛ لأنهم مكلفون بالدفاع عن أوطانهم، ولأن حفظ دماء الأمة أولى من حفظ الأموال «وأموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم لم تعدلها».
ثم يقول مستدلا على جواز أخذ الحاكم أموالا من الأفراد لمواجهة أزمة الاحتلال بالقياس الأولي: «فإذا أجاز الفقهاء بذل الدماء فبذل المال من باب أولى.. وإذا كان هذا دين الأمة ومذهب الأئمة فأي مقدار للأموال في هجوم أمثال هذه الأهوال لو مست إليها الحاجة، وأموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم لم تعد لها ولـم توازها، فإذا وجب تعريض المهـج للتوى وتعين في محاولة المدافعة التهاوي على ورطات الردى ومصادمة العدى ومن أبدى في ذلك تمردا فقد ظلم واعتدى، فإذا كانت الدماء تسيل على حدود الظبات فالأموال في هذا المقام من المستحقرات». [ ص: 163 ]
«وأجمع المسلمون أجمعون على أنه إذا اتفق في الزمان مضيقون فقراء مملقون تعين على الأغنياء أن يسعوا في كفايتهم، وكذلك اتفقوا كافة على وجوب بذل الأموال في تجهيز الموتى وغيره من جهات فروض الكفايات، فلاح على أبلغ وجه في الإيضاح أنه يجب على الأغنياء في هذا القسم أن يبذلوا فضلات أموالهم، كما سنفصل القول في ذلك إن شاء الله عز وجل، حتى تتجلى هذه الداهية وتنكف الفئة المارقة الطاغية... فهذا بيان مقدار غرضنا الآن إذا وطئ الكفار بلاد الإسلام».
ثم تكلم عن حكم فرض ضرائب قبل وقوع الأزمة من باب الاستعداد لها لوجود إشارات إنذار قريبة بحيث إننا نستشعر الخطر: «فأما إذا لم يجر ذلك بعد ولكنا نحاذره ونستشعره لانقطاع مواد الأموال واختلال الحال وإشارة الزمن إلى سـوء المغبـات في المال، ولو لم يتدارك ما يخاف وقوعه لو وقع في غالب الظن»، وهنا يتكلم عن حالة عدم وجود الأزمة فعلا ولكن هناك إشارات قوية، فهل يجوز في هذه الحالة أخذ ضرائب إضافية لتمويل الجيوش أم لا، فيقول:
«فهذا الفن ملحق بالقسم الأول قطعا، ولا يحل في الدين تأخير النظر للإسلام والمسلمين إلى اتفاق استجراء الكافرين، ولو فرض في مثل هذا الحال توقف وتمكث لانحل العصام وتبتر النظام، والدفع أهون من الرفع، وأموال العالمين لا تقابل وطأة الكفار في قرية من قرى الديار وفيها سفك دم المسلمين وامتداد يد إلى الحرام، ولو وقع وتم فلا مستدرك لما انقضي وتقدم إلا التأسف وقرع سن الندم، فإذا يلتحق هذا القسم بما تقدم». [ ص: 164 ]
وترى في العبارة إدراك الجويني لطبيعة الأزمة، وأنها إذا وقعت يصعب استدراكها، ولهذا هو يحشد قوى الأمة ليحرك إرادة الممانعة والمقاومة، ويبين أن أموال العالمين لا تقابل وطأة الكفار في قرية من قرى الديار. والعمل الفقهي الذي يقوم به الجويني هو أحد أشكال إدارة الأزمة بتقديم فقه يشعر الأمة بمسؤوليتها وبواجبها.
ثم يتكلم عن حكم حالة ثالثة، وهي عدم وجود إشارات إنذار قريبة، ولكن لو قعدنا عنهم جاءوا إلينا، فهل يكلف الأفراد بدفع ضرائب لاستمرار الجهاد؟ فيقول: «فأما القسـم الثالث وهو أن لا يخاف من الكفار هجوما لا خصوصا في بعض الأقطار ولا عموما ولكن الانتهاض إلى الغزوات والانتداب للجهاد في البلاد يقتضي مزيد عتاد واستعداد، فهل يكلف الإمام الموسرين أن يبذلوا ما يستعدون به؟ هذا موقع النظر ومجال الفكر.
ذهب ذاهبون إلى أنه لا يكلفـهم ذلك بل يرتقب في توجيه العساكر ما يحصل من الأموال؛ والذي اختاره قـاطعا به أن الإمام يكلف الأغنياء بذل فضلات الأموال ما يحصل به الكفاية والغناء، فإن إقامة الجهاد فرض على العبـاد، فتوجيه الأجناد على أقصى الإمكان والاجتهـاد في البـلاد محتوم لا تساهل فيه، وما أقرب تقاعدنا عنهم إلى سيرهم إلينا واستجرائهم علينا، وإذا كنا لا نسوغ تعطيل شيء من فروض الكفايات فأحرى فنونها بالمراعاة الغزوات». [ ص: 165 ]
وتلحظ أن الجويني يرى في القعود عن الجهاد إشارة قريبة لأزمة، ولهذا فهو يجيز فرض الضرائب في هذه الحالة، بناء على أن القعود عن الجهاد هو إشارة قريبة لأزمة متوقعة، ثم يقول:
«والأمور في الولايات إذا لم تؤخذ من مباديها جرت أمورا يعسر تداركها عند تماديها».
ثم يفترض حالة رابعة، وهي عدم وجود عجز في الموازنة، فرواتب الجنود متوفرة ونفقـات التدريب العسـكري متـوفرة، في الموازنة، ولكن لا يوجد رصيد لمواجهة معركة لو حـدثت فيقول: «فإن قيل: قد ذكرتم أنه تمتد يد الإمام إلى أمـوال الموسرين عند الهم بتجهيز الأجناد إلى الجهاد فما قولكم فيه إذا كان مع المرتزقة-الجنود الذين لهم رواتب ثابتة- كفايتهم وعدتهم في إقامتهم ونهضتهم ومرابطتهم وغزوتهم في أوانها وأبانها، ولكن خلى بيت المال أو كاد أن يخلوا وخاف الإمام غائلة هائلة من خلو بيت المال عند عسكرة للكفارة أو دبرة على المجاهدين»؟
فيجيز في هذه الحالة فرض ضرائب على الأغنياء حتى لا ينقطع الجهاد وينقطع «بانقطاعه وجوه الأموال التي تنصب إلى بيت المال ويتداعى ذلك إلى اختلال» فالجويني يدرك أن هناك علاقة تكاملية بين الجهاد والأموال، ولذا يجيز فرض الضرائب لاستمرار الجهاد.
ومع تحفظنا على الفكرة إلا أنها تشير إلى فكرة ارتباط الأحكام ببعضها وأثر تعطيل حكم على اختلال النظام في المجتمع، وهذه الفكرة التي تنطلق [ ص: 166 ] منها إدارة الأزمة باعتبار أن الأزمة هي اختلال في النظام، فواجب الإداري أن يعمل على دراسة النظام ومنع أي إجراء يؤدي لاختلاله.
«فأما إذا كان جنود الإسلام مشمرين للجهاد فالوجوه التي منها ينتظم الأموال غير منحسمة، والأحوال متسقة منتظمة، فيبعد تنجيز التعرض لأموال الناس لأمر مقدر على نأي وبعد»؛ وهنا نرى أن إشارات الأزمة تدل على بعد وقوعها ولذا لم يفت الجويني بجواز فرض ضرائب على المواطنين لغايات التمويل العسكري.
وفي قول الجويني: «والأحوال متسقة منتظمة» وضوح مفهوم نظرية النسق، والعلاقة النظمية في ذهن الجويني وقوامها ارتباط الأحكام ببعضها بنظام، وأن أي اختلال في النظـام قد يكون إشـارة لأزمة قادمـة، وهذا ما يستدعي فهم النظام للتمكن من إدارة الأزمة. وتأسيسا على ما سبق يقرر الجويني أنه إذا اتسقت الأحوال فنحن آمنون من الأزمات، فلا داعي لفرض ضرائب على المواطنين؛ لأن الضرائب هنا إخلال بالنظام.
التالي
السابق