الفصل الثاني: (الآخر) في القرآن الكريم
المبحث الأول: في مفهوم (الآخر)
كلما احتكت حضـارة أو مجتمعـات أو تجمعـات بشرية بأخرى إلا وبرزت مسألة (الآخر) أو (الغير) لتعكس قضية التمايز، ومن أهم مفرداتها: الحضارة والهوية والمرجعية والتثاقف والهيمنة والعنصرية و.... وتبلغ قضية التمايز حدتها كلما حاولت حضارة ما فرض قيمها ونموذجها الحضاري على الآخرين، وتتولد تبعا لذلك مقاومات وممانعات تتوخى الحفاظ على الذات وربطها بالأصول الدينية والمعرفية ضدا على (الوصفات) الثقافية والقيمية والسياسية المهيمنة وما تشكله من خطر تخلخل البنى الثقافية والفكرية للأمة المراد الهيمنة عليها.
وقبل الخوض في معيارية القرآن الكريم في تحديد دوائر (الآخر)، نقف وقفة قصيرة مع (الآخر) من الناحية المصطلحية والتعريفية.
فقد ورد جذر - أخ ر- في القرآن الكريم 250 مرة في صيغ عديدة وضمن معان متنوعة ومختلفة
>[1] . ومنها:
أخر (جمع أخرى)، استأخر، آخر، آخران، آخرون، أخرى، أخر-أخراهم، آخرة ...
[ ص: 35 ]
وتوجد في مجموعة من الآيات نورد بعضها فقط:
- آخر:
( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ) (المائدة:27)،
( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) (التوبة:102)،
( وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا ) (يوسف:36)،
( الذين يجعلون مع الله إلها آخر ) (الحجر:96)،
( ثم أنشأناه خلقا آخر ) (المؤمنون:14).
آخران:
( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) (المائدة:106).
آخرون:
( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا ) (التوبة:102).
( وآخرون مرجون لأمر الله ) (التوبة:106).
و(الآخر) بمعنى (الغير) وأصله أفعل من أخر أي تأخر، فمعناه أشد تأخرا ثم صار بمعنى المغاير
>[2] وآخر: تأنيثه أخرى وجمعها أخر غير مصروف، قال تعالى:
( فعدة من أيام أخر ) (البقرة:184)
>[3] ، ونقول: فلان أثبت مع الله إلها آخر
>[4] .
[ ص: 36 ]
وفي (غير): الغير- بكسر العين وفتح الياء- من قولك غيرت الشيء فتغير. وقال الأزهري: قال الكسائي: هو اسم مفرد مذكر وجمعه أغيار، وقال أبو عمرو: وهو جمع غيرة/بكسر الغين وفتح الياء-
>[5] .
والخطاب توجيه الكلام نحو الغير للإفهام
>[6] ، والإجبار في الأصل حمل الغير على أن يجبر الأمر
>[7] ، والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير
>[8] ، والتفويض رد الأمر إلى الغير لينظر فيه
>[9] ، و (الغير) الاسم من التغيير، وذهب اللحياني إلى أن الغير ليس بمصدر، إذ ليس له فعل ثلاثي غير مزيد، وغير عليه الأمر: حوله، وتغايرت الأشياء
>[10] .
و)الآخر( مفهوم كلي يتسع مدلوله لغويا لكل ما هو غير الذات، بيد أن معنى الاستعمال الشائع للفظ «الآخر» يميل إلى حصره في الآخر البشري، وربما اختزله بعضهم أكثر في غير المسلم.
إذن فـ (الآخر) الذي يهمنا في هذا المجال هو (الغير) باعتباره طرفا مفارقا للذات الاجتماعية، متميزا عن الأنا، له كيانه المستقل عنها في جميع أبنيته: الهيكلية والنفسية والشعورية والفكريائية
>[11] .
[ ص: 37 ]