المبحث الثاني: معيارية القرآن في تحديد (الآخر)
المطلب الأول: (الآخر) في فضاء الحرية الإسلامية
العلاقة مع (الآخر) ترمز إلى وضع التفاعل بين ذات ما و(الآخر). وأهمية علاقة (الذات) الإسلامية مع (الآخر) لا تنفصل عن أهمية العلاقة مع (الآخر) عموما؛ لأن (الذات) الإسلامية مثلها مثل أي ذات أخرى لا تقوم بنفسها. وتكتسب علاقة (الذات) الإسلامية مع (الآخر) أهمية خاصة لكونها تشهد حاليا اختلالات خطيرة.
إن الثقافة الإسلامية قدمت عدة معايير وقياسات حكمت من خلالها على ثقافة (الآخر)، ولونت بها صورته، فهناك أولا المعيار الديني: الإيمان الإسلامي، ثم المعيار الحضاري، وهو ما يقاس بمدى العمران عند (الآخر)، ومعيار بيئي جغرافي، يتعلق بموقع هذه الحضارات في أقاليم الكرة الأرضية، فضلا عن العامل المعرفي، أي بمدى تقدم معرفتهم بالعالم وحال الشعوب في ذلك الحين، كل هذه العوامل مجتمعة لونت نظرة الثقافة العربية - الإسلامية إلى (الآخر)... كما تأثرت نظرتها تلك بطبيعة العلاقات الفعلية القائمة بين «دار الإسلام» وبين (الآخر)، أي بحالة الحرب والسلم السائدة بينهم، في سياق ظرفها التاريخي، وبمدى ثقتها بمرجعيتهم الثقافية، وموقعهم في العالم
>[1] .
[ ص: 38 ]
إن الإسلام- وهو يطرح مشروعه التغييري الإصلاحي في المجتمع الجاهلي- سعى إلى تحديد طبيعة وماهية الجماعة (الـمصلحة) التي يريدها رافعة للواء القيم الجديدة التي يبشر بها، فوضع لها مواصفات، وحد لها حدودا، ورسم لها شروطا، بل ونظم علاقاتها مع (الآخر) ضمن منظومة من التوجيهات في إطار مفهوم جديد للحرية يعبر من خلاله (الآخر) عن انشغالاته الفكرية والعقدية والسياسية و... فكانت الحرية بذلك ثابتا أصيلا من ثوابت الشرع الإسلامي كفله القرآن وضمنته السنة المطهرة
>[2] .
ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر -اليوم- لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال، فإن الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس، فإنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى لتنتهي إلى التحرر من كل أشكال العبودية المهينة
>[3] .
إذن، ففي إطار هذه الحرية نزع الإسلام إلى تربية أتباعه على سلوك مقنن مع (الآخر) أيا كان موقعه وإلى أي قبيلة ينتمي، فوضع مبادئ تحكم هذه العلاقة وتؤسس لها، وهي أن )الناس سواسية كأسنان المشط)
>[4] ،
[ ص: 39 ] ووضع قواعد تلتئم في ظلها الجماعة البشرية، ورسخ دعوة كونية أساسها التنوع في إطار الوحدة من خلال قوله تعالى:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( الحجرات :13)
. ويبدو من ذلك أن القرآن بنى فلسفته على قاعدة نقيضة لفلسفات النفي والتفرد وعبادة الذات.
المطلب الثاني: موضوع (الآخر) في القرآن الكريم
حمل الإسلام نظرة دينية جديدة للعالم والإنسان، إذ تضمن التصور القرآني إدراكا لافتا للاختلاف بين الكائنات والناس واللغات والأديان، إذ خلق الله البشر، وفق الرؤية الإسلامية، مختلفين:
- جنسيا من ذكر وأنثى:
( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) (النجم:45).
- ولغويا:
( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) (الروم:22).
-ودينيا:
( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ) (التغابن:2).
- وأنشأ الاجتماع البشري في وحدات مختلفة (شعوبا وقبائل) على قاعدة علاقات التعارف:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات : 13)
[ ص: 40 ]
- والتدافع
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) (البقرة:251)، فمعنى «الدفع» أو التدافع، حسب المصطلح القرآني، يشير إلى التفاعل والتواؤم مع واقعة التنوع والاختلاف.
لكن هذا التأكيد على الاختلاف والتنوع، يوازيه التشديد على الوحدة الأصلية والنهائية الجامعة للبشر على اختلافهم، فقد كان الناس، وفق النظرة القرآنية، أمة واحدة، صدرت عن نفس واحدة «آدم»،
يقول تعالى:
( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ) (الأنعام:98)،
( ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) >[5] .
وذكر القرآن أهل الديانات في أكثر من موطن:
( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (البقرة:62)،
كما ذكر
( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ) (الحج:17).
[ ص: 41 ]
فقـد ميز القرآن بين ستـة فئات من أهل العقـائد، أجاز وجودهم في الاجتماع الإسلامي، مع تفويض أمرهم إلى الله يوم القيامة. فكان الاجتماع السياسي الإسـلامي نوعا من اجتماع حضاري، قائم على طواعية الأفراد والجمـاعات في الانتظام في هذا الاجتماع، بصرف النظر عن أصوله الإثنية والدينية والفكرية، الذي يتضمن حدودا يجب احترامها في ظل العيش المشترك.
إن موضوعة (الآخر) أو مسألة (الغيرية) تعتبر من أهم المباحث اليوم في العلوم الإنسانية لاتصالها بميادين علمية عديدة، ولتأثيرها في مسائل مهمة لحياة الجماعات البشرية من قبيل الهوية والحضارة والتبادل الثقافي.. خاصة مع المقاومة العنيفة التي بدأت تواجهها قيم الغرب، مما أدى إلى تخلخل البنى الثقافية والسياسية والقيمية للعلاقات الدولية
>[6] .
[ ص: 42 ]