المبحث الخامس: (الآخر) في البنية الثقافية
والفلسفية الغربية
لقد تفتقت (العبقرية الغربية) عن إشاعة مركزيتها، التي تقوم على مبدأ أهلية وأحقية الإنسان الغربي في التمدن والتقدم، وهامشية (الآخر) واعتباره (أطرافا)، ولذلك ففي عام 1830- وهذا تاريخ احتلال فرنسا للجزائر- وصف كليرمون تونير- وزير حرب فرنسا آنذاك - عملية الغزو الفرنسي للجزائر بقوله: (إنه عمل عظيم أنعمت به العناية الإلهية على فرنسا لتمدن العرب وجعلهم مسيحيين. وفي عام 1846م صدر كتاب بعنوان «AMM» جـاء فيه أن هدف الفرنسيـين من الغزو في الشمال الإفريقي لا داعي لستره عن الأوروبيين ولا عن العرب، هو الدعوة إلى المدنية المسيحية في إفريقيا)
>[1] .
لذلك فإن الأسس الفلسفية التي تقوم عليها الحضارة الغربية حددت صورة عنصرية -إلى أبعد الحدود- لـ(الآخر)، وقد ظلت (الذات الغربية) في حاجة دائمة إلى (الآخر/العدو) خصوصا عند تجذر الأزمات الداخلية، وتبرز الحاجة إلى (الآخر الخارجي) بهويته الثقافية، وقد ظل العربي والمسـلم - غالبا- مرشحا لهذا الموقع، اقتصاديا وسياسيا وإديولوجيا، خاصة بعد
[ ص: 100 ] سقوط الاتحاد السوفياتي، وهو جزء من الذات الغربية. وهذه الرؤية هي التي ما زالت تصنع الحدث (العالمي)، حيث إن جل بؤر التوتر في العالم تصنعها الغطرسة الغربية في محاضن إسلامية.
فعلى الصعيد الاقتصادي، المسلم والعربي هو المتسبب في الأزمة النفطية 73/74، وهو الذي ما يزال يملك أكبر احتياطي في العالم؛ وعلى المستوى السياسي فإن الاجتياح العربي الإسلامي يهدد وجود الغرب عبر الهجرة و(محاصرة إسرائيل) البلد الصغير القائم وسط العالم العربي؛ وفي الجانب الإديولوجي يتحول الجهاد إلى معنى الإرهاب، ومعاداة الغرب، والسامية والقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان... إلى آخر المعزوفة الحقوقية التي يتغنى بها الغرب والتي لم تعد تطرب أحدا ممن خبروا حقيقة القيم الغربية على المستوى العملي، حيث يأخذ الإسلام صفة الدين الصارم الذي يعكر صفو العالم الغربي القائم على العقلانية والاعتدال والتسامح، ويصبح العربي والمسلم بكل صفاته هو العدو، فبإدانة (الآخر) بالبربرية والتوحش وعدم التحضر ومخالفة القيم تسترجع (الذات الغربية) ما ضاع منها
>[2] .
وعلى مثل هذا الأساس المتجذر في العقلية الغربية، كان التدخل الاستعماري المباشر في أغلب الدول العربية والإسلامية والذي أدى إلى إحداث اختلالات خطيرة على مستوى التماسك والتوازن الداخليين للأمة،
[ ص: 101 ] وحاول إقامة توازن جديد يستند إلى الأفكار الغربية التي تعكسها العلمانية الحديثة، وإلى الجيش العلماني الحديث الذي تربى وترعرع في أحضان الجيوش الغربية. ولذلك كانت دول الاستقلال في عالمنا العربي والإسلامي استمرارا للسلطة المستعمرة وأجهزتها العسكرية والإدارية والاقتصادية والسياسية والفكرية والإديولوجية، وما ينظم ذلك من قوانين وتشريعات.
إن صورة (الآخر) في الفكر الغربي تتشكل من خلال ما أنتجه مفكروه وفلاسفته، وإذا اقتربنا قليلا من هذا الفكر بشتى مدارسه واتجاهاته، نلاحظ تلك (الحرب الفكرية الاستباقية) التي كانت تشن على الشعوب ممثلة في الاستشراقين القديم والجديد من جهة، ومن قبل كوكبة المفكرين المحليين من جهة أخرى.
فـ«جون لوك» مثلا، يرى (أن الهنود كسالى وانفعاليون وجامحون وبعيدون عن الانضباط وعنيفون ولا يمكن التنبؤ بأفعالهم، كما أنهم يطوفون في الأرض بحرية ولا يسيجونها ويفتقرون إلى مؤسسة الملـكية الخـاصة، ولا تجد لديهم فنونا وعلوما وثقافة، ومع أنهم يدعون أنفسهم أمما إلا أنهم يفتقرون إلى المقومات المعروفة للدولة، ولأنهم بعيدون عن أي إحساس بالملكية الخاصة فإن أرض(هم) خالية حقا، مفتوحة ومهجورة ويمكن أخذها دون إذنهم أو موافقتهم، ولأن مجتمعهم ليس منظما كدولة فإنه لا مناعـة أو حصانة له تجاه تدخل الآخرين. والإنجليزي ليس حرا فحسب في أن يأخذ (ريع) الأرض الهندية ويتدخل في طريقة حياة الهنود، وإنما ذلك واجب
[ ص: 102 ] عليه أيضا... ومن الواضح أن وجهة النظر التي يقدمها «لوك» تشبه شبها لافتا تلك التي قدمها (لاس كاساس) قبله بقرن ونصف القرن..
>[3] .
بل إن «لوك» واثق تماما أن الاستعمار الإنجليزي قد حقق معجزة أخلاقية في خدمة الله والبشرية والهنود، فضلا عن الإنجليز أنفسهم بالطبع، وهو واثق أيضا أن الهنود حين يتمردون على هذا الاستعمار يوظفون حريتهم في حرب (غير عادلة)، ومن المشروع معاملتهم كما يعامل العبيد...وهكذا تكون نظرية (لوك) قد قبلت الهنود بوصفهم موضوعات للاهتمام مساوية لغيرها دون أن تقبلهم بوصفهم جماعة ذات خصائص ثقافية ودينية. وتكون قد احترمت مصالحهم المادية دون أن تحترم طريقتهم في الحياة ومصالحهم الأخلاقية والروحية المرتبطة بها
>[4] .
ورأى «جون استيوارت مل» أن المجتمعات المتأخرة فاقدة للقدرة على تجديد ذاتها، وأنها إذن بحاجة إلى تمدن من الخارج. وقد رفض أن يكون لكل المجتمعات، بمن فيها المتأخرة، حقوقها في وحدة وسلامة أراضيها، وبأن تتطور تبعا لسياقها الخاص.. ورأى- مثل «لوك» - أن حـق عدم التدخل لا يستحقه إلا أولئك القادرون على الانتفاع به جيدا. أما بالنسبة للبقية فهو (إما شر محقق أو موضع سؤال في أفضل الأحوال). وتبعا لـ«مل»، شأنه شأن «لوك»، فإن الأفراد المتأخرين لهم الحق الأخلاقي في حماية حقوقهم
[ ص: 103 ] ومصالحهم مثل غيرهم، ولكنهم كجماعات ليس لهم الحق السياسي في عدم انتهاك طريقتهم في الحياة وسلامة أراضيهم..
ومثل «لوك» و«مل»، فإن «توكفيل» كان يهمه ألا يتم «إخفاء الرعايا المستعمرين أو تحطيمهم أو استرقـاقهم، بيد أنه كان مقتنعا أنه من غير الممكن معاملتهم كما لو كانوا مواطنين مثلنا مسـاوين لنا»، وأن من غير الممكن تثقيفهم إلا على خـلفية (الضرورات المؤسفة) التي تفرض العنف والإرهـاب
>[5] ، وقد كرسـوا هـذه المضـامين وبلوروها من خلال منظوماتهم التربوية باعتبارها الشريان الذي يغذي الناشئة الغربية بالأفكار والتوجهات
>[6]
وبالنسبة لـ«كانط» كما لـ«لوك» و«مل» وحدها الحياة الصناعية العقلانية النشطة والهادفة هي الجديرة بالكائنات البشرية، وبما أن سكان تاهيتي قد فشلوا في أن يرتقوا إلى مثل هذه الحياة فإنهم لا يختلفون كثيرا عن (الخراف والأبقار) وليس لهم الحق في أن تبذل لهم المجتمعات (المتمدنة)
[ ص: 104 ] الاحترام. وسؤال «كانط» الذي يمضي إلى لب النظرة التي ترى بها الليبيرالية المجتمعات غير الليبرالية هو سؤال كان قد طرحه المستعمرون الإسبان من قبل، وإذ استنتجوا أن الشعوب (البدائية) ليس لها حق الوجود بأي حال، فإنهم لم يروا أي خطأ في اتباع المنطق المجرم الذي ينطوي عليه السؤال العنصري لكانط.. إذا كان المتن الأساس في الفكر الليبرالي قد استحسن الاستعمار وصادق عليه، فإن بعض الكتاب الليبراليين مثل «بنتام» و«فولتير» و«ديدرو» لم يفعلوا ذلك، غير أن هؤلاء لم يكونوا سوى جماعة صغيرة هامشية
>[7] تمثل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
وحتى حين انتقد «هردر» التمييز الليبرالي السائد بين مجتمعات متمدنة ومجتمعات غير متمدنة، وهاجم الليبراليين على احتقارهم لهذه الأخيرة، كتب «كانط» ردا بالغ القسوة وسخر من إعجاب «هردر» بسكان تاهيتي السعداء واللامباليين، وسأل: ما هو مبرر وجودهم أصلا؟ هل يختلف الوضع لو أن هذه الجزيرة كانت مسكونة من قبل خراف وأبقار سعيدة بدلا من هذه الكائنات البشرية التي تستمد سعادتها من اللذة الحسية؟
ولقد شكلت نظرية «ماركس» في الدياليكتيك الطبيعي والتاريخي للإبداع الذاتي الإنساني أساسا لنظريته في الاستعمار. فالمجتمعات غير الأروبية هي مجتمعات ساكنة محافظة متأخرة تكنولوجيا، وتعيش في حمأة الدين والخرافة، مفتقرة إلى الفردية، وعابدة للطبيعة ومنقطعة عن التاريخ
[ ص: 105 ] العالمي. وبما أنها لا تتيح للإبداع الذاتي، بالمعنى الذي يعطيه «ماركس» لهذا المصطلح، سوى القليل من الحرية فإنها بحاجة لأن تفكك؛ وبما أنها عاجزة عن فعل ذلك بنفسها فإن الاستعمار الأوروبي هو ضرورة تاريخية وقوة تقدمية
>[8] ؛ وهذه بالضبط هي وجهة نظر معظم الليبراليين، بدءا من «لوك» فصاعدا...
إن التقاليد الفكرية والثقافية الغربية في رؤية (الآخر) - في بعديها الليبرالي والاشتراكي - تصدر عن رؤية واحدية لنفسها ولمن حولها، فهي ترى أن كل الكائنات البشرية يجب أن تكون على شاكلتها وتسير على طريقتها المثلى، كما قال فرعون، ولذلك لجأت إلى تبرير الاستعمار بضمير مرتاح: فالرعايا الخاضعون للاستعمار هم كائنات بشرية لكنها تفتقر إلى الحد الأدنى من الاختلاف، ولكي تتمتع بمساواة كاملة مع البشرية (المتمدنة) عليها أن تصبح مثلها وتحت وصايتها؛ وهو ما يتكرر في حياتنا اليوم من إرادة (فرض التغيير والإصلاحات الديموقراطية) على الدول والشعوب التي تمانع من الاندماج في المنظومة الغربية وسياستها الإقصائية المهيمنة.
إن (الغرب) المتعجرف سياسيا وفكريا وثقافيا واقتصاديا، لا يريد أن يعترف للآخر بخصوصياته وثقافته وتقاليده وعاداته، وأصبح يحتكر تفسير
[ ص: 106 ] كل شيء: من الظواهر الاجتماعية إلى النفسية إلى الدينية إلى الثقافية، وإليك الأمثلة التالية:
المثال الأول: حينما تتحدث وأنت تحرك يديك فهذا من علامات الحماس في بلادنا، ولكن في بلادهم (في العالم الغربي الأنجلو- سكسوني على الأقل) تعد حركة اليد علامة على الفظاظة، وتدل على أصل المتحدث (الإثني والطبقي) المتدني. فحركة اليد بالنسبة لنا هي تعبير عن إحساس عميق بالرغبة في التواصل مع الآخر يواكبه إحساس بأن اللغة لا تعبر بما فيه الكفاية عن مكنون ما في الصدور. أما هناك فهي حضارة تعاقدية مادية وضعية، ما لا يعبر عنه من خلال الكلمات الواضحة الدقيقة يجب أن يطويه النسيان، ولا يفعل هذا سـوى المهاجرون الجـدد (من إيطاليا مثلا) الذين لم يتم صقلهم بعد بمقاييس الحضارة (الأنجلوسكسونية) الغربية.
المثال الثاني: قامت مجموعة من العلماء اليابانيين والأمريكيين بدراسة سلوك مجموعة واحدة من القرود تحت نفس الظروف. فقسم الأمريكيون القرود إلى مجموعات متساوية العدد تقريبا. وبدأوا في تسجيل حركاتها ومراكمة المعلومات ومقارنة سلوك هذا القرد بذلك. أما العلماء اليابانيون فقد قسموها إلى عائلات، وأعطوا اسما لكل عائلة واسم علم لكل قرد، وقد لاحظ كل فريق أن القرود تقوم بوضع البطاطس في الماء قبل أكلها، فخلص الأمريكيون من ذلك إلى أن القـرود تقوم بغسـل البطـاطس لتنظيفها. أما اليابانيون فقد لا حظوا أولا أن بعض عائلات القرود هي التي تقوم
[ ص: 107 ] بغسل البطاطس، وثانيا أن القرود تفعل ذلك لأنها استحسنت مذاق البطاطس بالماء المالح.
ورغم أن كلا الفريقين يقوم بملاحظة نفس الظاهرة، إلا أن أعضاء الفريق الأمريكي يدورون في إطار (القرد العام) أو مجموعات عددية من القرود لا يربطها رابط عائلي ولا يتسم بأي خصوصية، على عكس اليابانيين الذين استخدموا الأسرة كوحدة تحليلية. ولذا بينما قام الأمريكيون بالتعميم على النوع ككل ورؤية السلوك باعتباره سلوكا عفويا طبيعيا عاما برانيا، رأى اليابانيون أنه سلوك حضاري مكتسب وليس جزءا من البرنامج الطبيعي الغريزي للقرود، ومن ثم فهو يشكل خصوصية لعائلات القرود التي اكتسبته.. وبينما درس الأمريكيون سلوك القرد في إطار مفهوم المنفعة، نجد اليابانيين درسوا نفس السلوك في إطار مفهوم اللذة والسعادة. ولعل اختلاف النتائج نابع من اختلاف المقدمات، فبينما رأى الأمريكيون القرود باعتبارها مجرد موضوع للدراسة والملاحظة، مادة لا قسمات لها ولا ملامح، أقام اليابانيون علاقة مودة معهم، فكانوا على استعداد أكبر لرؤية ملامحهم الخاصة وشخصيتهم
>[9] .
إنه مهما قيل عن موقع (الآخر) في الرؤية الغربية، فإن الحوار
>[10] سيبقى هو السبيل الأقوم والحل الأنجح، ولن يتحقق التفاهم إلا بتحقق التفهم
[ ص: 108 ] والوعي لـ (لآخر)، ومن هنا ينبثق واجب التصحيح. فعلى كل من الفريقين أن يصحح صورته لدى (الآخر)، فيؤكد عناصر الصحة وينفي عناصر التزييف، ومن الطبيعي ألا ينتظر منا - نحن المسلمين- أن ندافع عن الغرب وصورته في أذهاننا، ذلك أننا نعتقد صحة ما نتصور، والوقائع يوما بعد يوم تزيدنا وضوحا وتأكدا، بل كلما تمعنا في كتابات المنظرين الغربيين اليوم والمؤرخين الغربيين لتاريخ الصراع، نجد الأمر يتأزم أكثر مما نحن عليه من تصور، وإلا فإلى ماذا يؤدي التأمل في نظريتي «هنتنغتون» و«برايان» غير الإلحاح على تعميق الصراع، ومفادها:
- نظرية هنتنغتون: تقول بضرورة الصراع بين الحضارتين، وقد أكدت نظريته التي نشرها في صيف 1993م في مجلة Foreign Affairs الأمريكية أن النـزاع ضروري بين الحضارات، ورغم أنه عد ثمان حضارات إلا أن التأمل في تحليله يحصر النـزاع في أطراف ثلاثة في الواقع هي:
1- الطرف الغربي الأمريكي: والذي هو نتيجة الرونيسانس (النهضة) والإصلاح والذي أنتج الرأسمالية والديموقراطية الحديثة.
2- الطرف الكونفوشيـوسي وأفـكاره مجموعة رؤى اجتماعية تسود الصين.
3- الإسلام وهو الطرف الأصيل في النـزاع في تصوره، ورغم تراجع «هنتنغتون» في بعض أحاديثه عن هذه الرؤية العدائية القائمة، فإن السياسات الغربية مازالت تؤكد هذا المنحى.
[ ص: 109 ]
- نظرية «برايان»: نشـرها في (الإيكونوميست) سنة 1994م ويؤكد فيها أن الديمـوقراطية وليدة الإصلاح في المسيحية في أوائل القرن السادس عشر، والذي ركز على مسـؤولية الفرد أمـام الله، مستبـعدا دور الكنيسـة، وتحـول هذا، بعد ثلاثة قرون، إلى الفكرة الديموقراطية على الصعيـد السياسي والتي سـادت جزءا كبيرا من العالـم، ثم عادت بلا منازع بعد انهيار الماركسية، ويرى أن القرآن أيضا يؤكد المسؤولية الفردية، ولكن في إطار جبري. ولكي يوقع صلحا بين العالمين الإسلامي والغربي يركز على ضرورة نفي دور العلماء الذين يحتكرون - في رأيه - الفهم الإسلامي بعد طرحهم مبدأ الاجتهاد، وهو عملية تخصصية يهاجمها «برايان» بشدة.
وبعد، فهذا هو الغرب بأهم مكوناته الفلسفية والإديولوجية والدينية، وتناقضاته الاجتماعية والسياسية... هذا هو الغرب... وهذه هي ماهيته التي في ضوئها سنتحدث عن فقه للاستغراب.
[ ص: 110 ]