المبحث الثاني: في بعض نتائج الحروب الصليبية
- على المستوى الاجتماعي:
أدت مواجهة الصليبيين مع المسلمين إلى ميلهم نحو الوحدة في القرن الثالث عشر الميلادي بعدما كانوا مشتتين، فازدادت بذلك قدرتهم، ومن جهة أخرى عاشت أوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي حالة من التجدد والتحديث وكسر قيود التقاليد لم نشاهدها في قرون أخرى؛ ونتيجة للتطورات الاجتماعية العميقة التي حدثت في هذا الصدد ظهر مفكرون وعلماء أمثال: بيكون، وغاليليو، وديكارت، وسبينوزا، وليبنـز
>[1] ، كما أن الغربيين - بعد اختلاطهم بالشعوب الإسلامية - تأثروا بحضارتها وعمرانها. وهذا ليس غريبا فإن البابا جريجوري، الذي عدل التاريخ وضبطه، نهل المعرفة في قرطبة أيام العز الإسلامي، وهي مدينة إسلامية من مدن الأندلس، إذ أن فكرة ضبط التاريخ نفسها مأخوذة من هناك.كما أن شعراء أوروبا تأثروا بالمعاني التي حملتها اللغة العربية، وكانت الجواري المؤدبات في الأندلس يشكلن مصدر تنافس من جانب الأمراء الأوروبيين، الذين يدعونهن بغرض تخصيص حصص تعليمية لأولادهم، فكانت اللغة المستعملة هي اللغة العربية، وكان (البابا جريجوري) يتحدثها بطلاقة. كما أن البرتغاليين في
[ ص: 119 ] رحلة (فاسكو دي جاما) استفادوا من لغتهم العربية في كشوفهم في شرق إفريقيا وجنوب اليمن والهند
>[2] .
وكان ألفونس العاشر ملك قشتالة وليون (1252-1282م) أكبر مروج للثقافة الإسلامية في الأندلس. وقد أعد مجموعة من القوانين ذات الصبغة الإسلامية أصبحت فيما بعد أساس التشريع في إسبانيا. وفي عهد النورمانديين بلغت الثقافة الإسلامية في صقلية أوجها، حيث أصبحت القناة الثالثة التي سرت الثقافة الإسلامية منها إلى الغرب
>[3] .
لذلك، فإننا - في حالة الحوار مع الغرب - لابد من التركيز على نقطة استفادته من الحضارة الإسلامية وأنه كان جزءا منها. فالإنسان الغربي عندما يشعر بأن الفكرة التي تدعوه إليها تمثل جزءا من تراثه ومجده وقوته، تكون أعلق بقلبه من أي شيء آخر. ولهذا: "ندعو البحاث والكتاب والمحققين المسلمين إلى تصويب نظرتهم إلى أثر الحضارة الإسلامية في أوروبا...وندعو لطرح الإسلام في الحوار مع الغرب على أنه دين أوروبي استوطن أوروبا ثمانية قرون وحمل معه لغته العربية... فالخليفة عبد الرحمن الناصر خليفة (إسباني) والفقيه ابن حزم فقيه (إسباني) أوروبي أيضا، وكذلك كان الشاعر ابن خفاجة وغيرهم كثير"
>[4] .
[ ص: 120 ]
وفي حركة الحوار، التي تبحث عن المشتركات في المعاني في الثقافة وفي الأصول الدينية والحضـارية واللغـوية، يمكن أن ندخل لهم اللغة العربية، إذ أنها لغة أوروبية بما أنهم ظلوا يتحدثون بها في الماضي طيلة ثمانية قرون، وكونها اليوم غير متحدث بها فهذا لا يعني أنها غير أوروبية؛ لأن اللاتينية والإغريقية هما اليوم غير متحدث بهما أيضا، كما أن الكنيسة في ذلك الوقت ترجمت الكتاب المقدس للعربية لغير المسلمين؛ لأن نصارى الأندلس وما جاورها أصبحوا لا يتحدثون إلا العربية. وفي هذا السياق يمكننا أن نقول لهم: إن الإسلام هو أيضا ديانة أوروبية؛ لأنها استقرت في الأندلس وجنوب إيطاليا وجنوب فرنسا والبرتغال ثمانية قرون كاملة، وفي شرق أوروبا ما زالت مستقرة إلى اليوم. ولهذا يمكننا طرح محور جديد يتمثل في أثر الإسلام في الثقافة والدين واللغة والحضارة الأوروبية. والإسلام دين أوروبي-كذلك- والقول بأنه وافد لا يستقيم، لأن المسيحية واليهودية دينان وافدان كذلك
>[5] .
- على المستوى العلمي:
أرسل شارلمان - بعد إدراكه تفوق العالم الإسلامي- رسلا إلى البلاد الإسلامية ليكتشفوا سر نجاح المسلمين وتفوقهم. وعندما عاد هؤلاء، طرح كل واحد منهم وجهة نظره، ومما قاله أحدهم في المسلمين: هناك عدد منهم ذوي شخصيات مرموقة ومحترمة يقضون يومهم في غرف تملأ جدرانها
[ ص: 121 ] الكتب، وعملهم القراءة والدراسة. وقد عرف شارلمان، إمبراطور أوروبا، أن سر تفوق المسلمين يكمن في هذه النقطة. فأمر بجمع جميع كتب أوروبا، لكن الجامعين - وبعد سعي حثيث - لم يتمكنوا من جمع سوى ثمانية وأربعين كتابا، وكان معظمها الإنجيل، وكان هذا في وقت كانت فيه بعض الشخصيات العلمية في العالم الإسلامي تمتلك مكتبات كبيرة جدا في مختلف الفروع العلمية.
- على المستوى الديني:
ازداد الفساد بين القساوسة والرهبان، مما أدى إلى بروز حركات إصلاحية بينهم تدعو إلى إصلاح النظام الكنسي، وظهور حركة دينية قامت بمحاربة عقائد الكنيسة الخرافية استنادا إلى العقل
>[6]
إذن بعد الحروب الصليبية عاد المسلمون إلى سابق عهدهم الزاهر وانكفأ الصليبيون عن الشرق عام1291م، واحتل محمد الفاتح القسطنطينية وحاصر فيينا عام 1519م. وشاع في أوروبا الخوف والحقد من هذا الامتداد الإسلامي الجديد. ثم اتجهت أوروبا إلى إفريقيا وشرق آسيا، وكان هناك صراع مرير، وانتصر الإسلام هناك. وبعد فترة، بدأ الهجوم الغربي بنـزول نابليون في الإسكندرية عام 1798م، وسيطر الهولنديون على أندونيسيا عام1800م، واحتل الفرنسيون الجزائر عام1830م، واحتلت القوات الروسية القوقاز وتركستان في أواسط القرن التاسع عشر، واحتل
[ ص: 122 ] الإنجليز الهند في الفترة نفسها، عام 1857م، ونجح الغرب في السيطرة على المحيطين الأطلسي والهندي والمتوسط ومداخل البحر الأحمر، واحتل الإنجليز مصر والسودان سنة 1897م. وفي 1917م دخل الحلفاء بيت المقدس، وفي عام 1948م أنشئت آخر وأخطر قلعة غربية في قلب العـالم الإسلامي بقيام (دولة إسرائيل) على يد الإنجـليز، وإن كان الحضور الغربي قد انحسر - فيما بعد - عن العالم الإسلامي في الظاهر على الأقل
>[7] .
[ ص: 123 ]