المبحث الرابع: الزهد
الزهد مقام رفيع دعا إليه الكتاب والسنة، وعمل به سلف الأمة
>[1] ، وأشاد بفضله الأئمة
>[2] ، ومنهم الإمام ابن القيم، رحمه الله، حيث نجده يستشهد بالعديد من الآيات القرآنية الواردة في التـزهيد في الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها وزوالها، والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها،
فيقول: «قال الله تعالى:
( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) (النحل:96) ؛
وقال تعالى:
( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) (الحديد:20) ؛ وقال تعالى:
( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به [ ص: 77 ] نبات الأرض ) (يونس: 24) ...
وقال تعالى:
( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) (النساء:77) ؛
وقال تعالى:
( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) (الأعلى:16-17) ،
وقال:
( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) (طه:131) ؛
وقال تعالى:
( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) (الكهف:7-8) ...»
>[3] .
- تعريف الزهد وبيان حقيقته
يورد ابن القيم أقوال العلماء من السلف وأرباب السلوك في تعريف (الزهد) وبيان حقيقته، ومن ذلك قوله، رحمه الله: «سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، يقول: «الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة»، وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.
وقال سفيان الثوري
>[4] : «الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء»...
[ ص: 78 ] وقال ابن الجلاء
>[5] : «الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، فتصغر في عينك ويسهل عليك الإعراض عنها»...
وقيل: «هو عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف»...
وقال عبد الواحد بن زيد
>[6] : «الزهد: الزهد في الدنيا والدرهم».
وقال أبو سليمان الداراني: «ترك ما يشغل عن الله»، وهو قول الشبلي
>[7] .
وسأل رويم
>[8] الجنيد عن الزهد؟، فقال: «استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب»، وقال مرة: «هو خلو اليد عن الملك، والقلب عن التتبع».
وقيل: «حقيقته هو الزهد في النفس»، وهذا قول ذي النون المصري... وقد قال
الإمام أحمد بن حنبل : «الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام. والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
[ ص: 79 ] والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين»، وهذا الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدم من كلام المشايخ مع زيادة تفصيله وتبيين درجاته، وهو من أجمع الكلام...
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن
>[9] أو غيره: «ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بمـا في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبـة -إذا أصبت بها- أرغب منك فيها لو لم تصبك»، فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه، وقد روي مرفوعا
>[10] .
- أقسام الزهد ومراتبه
ويفصل ابن القيم القول في بيان أقسام الزهد ومراتبه والأمور التي تصححه، فيقول: «الزهد على أربعة أقسام»
>[11] :
أحدها: فرض على كل مسلم، وهو الزهد في الحرام، وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب، فلابد من وجود مسببه ما لم ينعقد سبب آخر يضاده.
الثاني: زهد مستحب، وهو على درجات من الاستحباب بحسب المزهود فيه، وهو الزهد في المكروه وفضول المباحات والتفنن في الشهوات المباحة.
الثالث: زهد الداخلين في هذا الشأن، وهم المشمرون في السير إلى الله، وهو نوعان:
[ ص: 80 ] أحدهما: الزهد في الدنيا جملة، وليس تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفرا منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانت في يده، فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك. وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذي يضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيد ولد آدم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح، ولا يزيده ذلك إلا زهدا فيها...
والذي يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء:
أحدها: علم العبد أنها ظل زائل وخيال زائر، وأنها كما قال الله تعالى فيها:
( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ) (الحديد:20) ...
وسماها سبحانه (متاع الغرور) ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا مثل مصارعهم، وذم من رضي بها واطمأن إليها.
( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها ) >[12] ...
[ ص: 81 ] الثاني: علمه أن وراءها دارا أعظم منها قدرا وأجل خطرا وهي دار البقاء، وأن نسبتها إليها كما
( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) >[13] ...
الثالث: معرفة أن زهده فيها لا يمنعه شيئا كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها...
النوع الثاني: الزهد في نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقها. وأكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه، فإن الزاهد يسهل عليه الزهد في الحرام لسوء مغبته وقبح ثمرته، وحماية لدينه وصيانة لإيمانه، وإيثارا للذة والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة، وحمية من أن يستأثر لعدوه.
ويسهل عليه الزهد في المكروهات وفضول المباحات: علمه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم.
ويسهل عليه زهده في الدنيا معرفته بما وراءها وما يطلبه من العوض التاموالمطلب الأعلى. وأما الزهد في النفس فهو ذبحها بغير سكين، وهو نوعان:
أحدهما: وسيلة وبداية، وهو أن تميتها فلا يبقى بها عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها، قد سبلت
>[14] عرضها
[ ص: 82 ] ليوم فقرها وفاقتها، فهـي أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها، أو تجيبها إذا دعتك، أو تكرمها إذا عصتك، أو تغضب لها إذا ذمت، بل هي عندك أخس مما قيل فيها. أو ترفهها عما فيه حظك وفلاحك وإن كان صعبا عليها.
وهذا وإن كان ذبحا لها وإماتة عن طباعها وأخلاقها فهو: عين حياتها وصحتها ولا حياة لها بدون هذا البتة. وهذه العقبة هي آخر عقبة يشرف منها على منازل المقربين، وينحدر منها إلى وادي البقاء ويشرب من عين الحياة، ويخلص روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق...
والنوع الثاني: غـاية وكمـال، وهو أن يبذلها للمحبوب جملة بحيث لا يستبقي منها شيئا، بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به، فهل يجد من قلبه رغبة في إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟، فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه، فهو يبذلها له دائما بتعرض منه لقبولها.
وجميع مراتب الزهد المتقدمة مباد ووسائل لهذه المرتبة، ولكن لا يصح إلا بتلك المراتب، فمن رام الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها فمتعنت متمن كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلم»
>[15] .
[ ص: 83 ]