المبحث الحادي عشر: الصدق
قيمة الصدق ومكانته
الصدق من أجل مقامات السالكين إلى الله تعالى، ومن أهم منازل السائرين إليه، ولذا نجد ابن القيم يفصل القـول في بيان قيمـة هذه المنـزلة ومكانتها وعلو شأنها، وفي إيراد النصوص الشرعية الواردة فيها وبيان مضامينها، حيث يقول، رحمه الله: «هي منـزلة القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوى الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيـران، وهو سيف الله في أرضـه، الذي ما وضع عـلى شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة (النبوة) التي هي أرفع درجات العالمين...
وقد أمر الله سبحـانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
فقال تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) (التوبة:119) ؛ وقال تعالى:
( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من [ ص: 131 ] النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) (النساء:69) ،
فهم الرفيق الأعلى
( وحسن أولئك رفيقا ) (النساء:69) ،
ولا يزال يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده؛ إحسانا منه وتوفيقا. ولهم مرتبة المعية مع الله، فإن الله مع الصادقين، ولهم منـزلة القرب منه، إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين...
وأخبر تعالى عن أهل البر، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم: من الإيمان، والإسلام، والصدقة، والصبر بأنهم أهل الصدق،
فقال:
( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) (البقرة:177) ،
وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان...
وأخبر سبحـانه أنه في يوم القيـامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه،
قال تعالى:
( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ) (المائدة:119) ...
وقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق، فقال:
( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق [ ص: 132 ] واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) (الإسراء:80) ،
وأخبر عن خليله إبراهيم، عليه السلام، أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين،
فقال:
( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) (الشعراء:84) ،
وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق،
فقال تعالى:
( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) (يونس:2) ،
وقال:
( إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) (القمر:54–55) ،
فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.
وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته، بالظفر بالبغية وحصول المطلوب؛ ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها، كمخرج أعدائه يوم بدر، ومخرج الصدق كمخرجه ( هو وأصحابه في تلك الغزوة. وكذلك مدخله ( المدينة كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله، فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب، فإنه لم يكن بالله ولا لله، بل كان محادة لله ورسوله، فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار...
[ ص: 133 ] وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه صلى الله عليه وسلم من سائر الأمم بالصدق، كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل، عليهم السلام:
( وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) (مريم:50) ،
والمراد باللسان هاهنا: الثناء الحسن. فلما كان الصدق باللسان، وهو محله، أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا، وعبر به عنه...
وأما قدم الصـدق: ففسر بالجنـة، وفسر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفسر بالأعمال الصالحة.
وحقيقة (القدم) : ما قدموه، وما يقدمون عليه يوم القيامة. وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك. فمن فسره بها أراد: ما يقدمون عليه، ومن فسره بالأعمال وبالنبي صلى الله عليه وسلم فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم. فالثلاثة قدم صدق.
وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى»
>[1] .
ويقول أيضا: «إن صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القـلوب والجـوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم، لا إله غيره ولا رب سواه»
>[2] .
[ ص: 134 ] حقائق الصدق
ويورد ابن القيم جملة من أقوال العلماء السالكين في بيان حقائق الصدق، ومن ذلك قوله: «قال عبد الواحد بن زيد: «الصدق الوفاء لله بالعمل». وقيل: «موافقة السر النطق». وقيل: «استواء السر والعلانية». وقيل: «القول بالحق في مواطن الهلكة». وقيل: «كلمة الحق عند من تخافه وترجوه».
وقال إبراهيم الخواص: «الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه». وقال الجنيد: «حقيقة الصدق: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب». وقال صاحب المنازل: «الصدق اسم لحقيقة الشيء بعينه حصولا ووجودا».
والصدق: هو حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه، كما يقال: عزيمة صادقة، إذا كانت قوية تامة، وكذلك: محبة صادقة، وإرادة صادقة. وكذا قولهم: حـلاوة صـادقة، إذا كانت قوية تامة ثابتة الحقيقة لم ينقص منها شيء»
>[3] .
ويرى أن «من عـلامات الصـدق: طمأنينة القلب إليه. ومن علامات الكذب: حصول الريبة، كما في الترمذي -مرفوعا- من حديث الحسن بن علي، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصدق طمأنينة، والكذب ريبة
>[4] »
>[5] .
[ ص: 135 ]