المبحث الرابع: الزهاد والمتصوفة الأوائل
لقد امتاز المتقدمون من الزهاد والمتصوفة وأرباب السلوك بمزايا عديدة، منها: صفاء القلوب، وصدق العزائم، وحسن السلوك. كما كانت لهم الإشارات البديعة، والتوجيهات النافعة فيما يتعلق بأعمال القلوب وآفات النفوس وتصحيح المعاملة مع الله عز وجل.
وقد أثنى ابن القيـم على الكثير منهم، كسهل بن عبد الله التستري، وأبي طالب المكي
>[1] ، والجنيد بن محمد، وأبي عثمان النيسابوري
>[2] ، ويحيـى بن معاذ الرازي
>[3] ، وأبي سليمان الداراني، وعون بن عبد الله
>[4] ، وغيرهم، وقال: «إنهم تكلموا على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلاما مفصلا جامعا مبينا،...، وهم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة، وطهارة القلوب، وزكاة النفوس، وتصحيح المعاملة، ولهذا كلامهم قليل فيه البركة، وكلام المتأخرين كثير طويل قليل البركة»
>[5] .
[ ص: 87 ] وذكر أنهم أعمق علما من المتأخرين، وأقل تكلفا، وأكمل بصائر، وكانت همتهم: مراعاة أصول السلوك، وضبط قواعدها، وشد معاقدها. وأن هممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء
>[6] .
وحدد مجال نشاطهم بثلاثة ميادين رئيسة:
«أحدها: الكشف عن منازل السير.
الثاني: الكشف عن عيوب وآفات الأعمال ومفسداتها.
الثالث: الكشف عن معاني الأسماء والصفات وحقائق التوحيد والمعرفة»
>[7] .
وعقب على ذلك فقال: «وهذه الأبواب الثلاثة هي مجامع علوم القوم، وعليها يحومون، وحولها يدندنون، وإليها يشمرون، فمنهم من جل كلامه ومعظمه في السير وصفة المنازل، ومنهم من جل كلامه في الآفات والقواطع، ومنهم من جل كلامه في التوحيد والمعرفة وحقائق الأسماء والصفات.
والصـادق الذكي يأخـذ من كل منهم ما عنده من الحق، فيستعين به على مطلبه، ولا يرد ما يجده عنده من الحق لتقصيره في الحق الآخر، ويهـدره به، فالكمـال المطلـق لله رب العالمين، وما من العباد إلا له مقام معلوم»
>[8] .
[ ص: 88 ] ولكل ما تقدم أكثر ابن القيم من ذكر أقوال هؤلاء المتقدمين وأحوالهم، يستأنس بها -ويستدل بها أحيانا- في ما يذهب إليه ويقرره من مسائل في منازل العبودية وتفصيلاتها، ولاسيما في كتابه (مدارج السالكين) . ومن ذلك على سبيل المثال -لا الحصر- ما يلي:
1- يستشهد بأقوال بعضهم في تعريف (الخوف) وبيان حقائقه، حيث يقول: «قال أبو القاسم الجنيد: «الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس...»، وقال أبو حفص: «الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه»، وقال: «الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه...»، وقال أبو سليمان الداراني: «ما فارق الخوف قلبا إلا خرب»، وقال إبراهيم بن سفيان: «إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها»، وقال ذو النون: «الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق»
>[9] .
2- ويذكر ما أثر عنهم في تعريف (الزهد) وبيان حقائقه وفضائله، فيقول: «قال سفيان الثوري: «الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس العباء...»، وقال يحيـى بن معاذ: «الزهد يورث السخاء بالملك، والحب يورث السخاء بالروح...»، وقال ابن الجلاء: «الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، فتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض
[ ص: 89 ] عنها»، وقال ابن خفيف
>[10] : «الزهد وجود الراحة في الخروج من الملك»، وقال أيضا: «الزهد سلو القلب عن الأسباب ونفض الأيدي من الأملاك»،... وقال الجنيد: «الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد». وقال الإمام أحمد: «الزهد في الدنيا قصر الأمل»،... وقال عبد الله بن المبارك: «هو الثقة بالله مع حب الفقر»،... وقال عبد الواحد بن زيد: «الزهد: الزهد في الدينار والدرهم»، وقال أبو سليمان الداراني: «ترك ما يشغل عن الله»، وهو قول الشبلي. وسأل رويم الجنيد عن الزهد؟، فقال: «استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب»، وقال مرة: «هو خلو اليد عن الملك والقلب عن التتبع»،... وقال الإمام أحمد بن حنبل: «الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام. والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص. والثالث: ترك ما يشغل عن الله. وهو زهد العارفين»
>[11] .
3- ويذكر ما أثر عنهم في تعريف (المراقبة) وبيان حقيقتها، فيقول: «قال الجنيد: «من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير»، وقال ذو النون: «علامة المراقبة إيثار ما أنـزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله»،... وقال إبراهيم الخواص: «المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل»،... وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى
[ ص: 90 ] في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره، حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته»
>[12] .
4- وبعد أن ذكر الآيات الواردة في منـزلة (الإخلاص) ،
ومنها قوله تعالى:
( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (الملك:2) ،
يورد ما أثر عن الفضيل بن عياض، رحمه الله، في بيان معنى عبارة (أيكم أحسن عملا) الواردة في الآية الكريمة، فيقول: «قال الفضيل بن عياض: «هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟، فقال: إن العمل إذا كان خالصـا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابـا ولم يكن خالصـا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا. والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة»،
ثم قرأ قوله تعالى:
( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (الكهف:110) »
>[13] .
كما يورد ما أثر عنه وعن غيره من أرباب السلوك من أقوال في حقيقة (الإخلاص) وقيمته وفضله، فيقول: «... ومن كلام الفضيل: «ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما»، وقال الجنيد: «الإخلاص سر بين الله والعبد لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسـده، ولا هوى فيميلـه»،... وقال مكحول: «ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على
[ ص: 91 ] لسانه»،... وقال أبو سليمان الداراني: «إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء»
>[14] .
5- ويورد أقوال بعضهم في بيان حقيقة (التوكل) ودرجاته، فيقول: «قال الإمام أحمد: «التوكل عمل القلب»،... وقال سهل: «التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد»،... وسئل يحيـى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلا؟، فقال: «إذا رضي الله وكيلا»،... وقال ابن عطاء: «التوكل أن لا يظهر فيك انـزعاج إلى الأسباب، مع شـدة فاقتك إليها، ولا تـزول عن حقيقـة السـكون إلى الحق مع وقوفك عليها»،... وقال ذو النون: «هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة، وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه»،... وأجمع القوم على أن التوكل لا ينـافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد،... وقال أبو علي الدقاق: «التوكل ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه. فالتوكل بداية، والتسليم واسطة، والتفويض نهاية».
فالتوكل صفـة المـؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين...، والتوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم الخليل، والتفويض صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين»
>[15] .
[ ص: 92 ] 6- كما يورد أقوال بعضهم في بيان حقيقة (الصبر) ، فيقول: «سئل الجنيد بن محمد عن الصبر؟، فقال: «تجرع المرارة من غير تعبس». وقال ذو النون: «هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة»...، وقال عمرو بن عثمان المكي: «الصبر هو الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والدعة»...، وقال الخواص: «الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة»
>[16] .
ويستشهد في بيان فضل (الصبر) بما أثر عنهم في ذلك، فيقول: «قال الحسن: «الصبر كنـز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده»، وقال عمر بن عبد العزيز: «ما أنعم الله على عبد نعمة فانتـزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرا مما انتـزعه»، وقال سليمان بن القاسم
>[17] : «كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر،
قال تعالى:
( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (الزمر:10) ،
قال: كالماء المنهمر»...، وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى:
( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) (السجدة:24) ،: «لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤوسا»»
>[18] .
7- ويورد كذلك كلماتهم في بيان حقيقة (الصدق) وفضله، فيقول: «قال عبد الواحد بن زيد: «الصدق الوفاء لله بالعمل»...،
[ ص: 93 ] وقال إبراهيم الخواص: «الصـادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضـل يعمل فيه»، وقال الجنيـد: «حقيقـة الصـدق: أن تصدق في مـوطن لا ينجيك منه إلا الكذب»...، وقال يوسف بن أسباط
>[19] : «لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أن أضرب بسيفي في سبيل الله»»
>[20] .
8- ويستشهد في معرض بيانه لفضل (الذكر) وقيمته بما أثر عن الحسن البصري، رحمه الله، أنه قال: «تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق»
>[21] .
ويستمد حكمه بأن حياة القلوب إنما تكون بدوام ذكر الله وترك الذنوب والمعاصي من قول عبد الله بن المبارك، رحمه الله:
«رأيت الذنوب تميت القلوب وترك الذنوب حياة القلوب
وقد يورث الذل إدمانها وخير لنفسك عصيانها»
>[22] 9- ويدعم بأقوالهم ما ذهب إليه في الضابط الثالث من ضرورة (الالتـزام بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما) ، فيقول: «قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد، رحمـه الله: «من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بأصول الكتاب والسنة»...، وقال أبو حفص، رحمه الله: «من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب
[ ص: 94 ] والسنة، ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال»، وقال أبو سليمان الداراني، رحمه الله: «ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما، فلا أقبله منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنة»، وقال أبو يزيد: «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة»
>[23] .
10- ويستشهـد بأقوالهم في الضابط الرابع من ضرورة (متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به) ، فيقول: «قال الجنيد بن محمد، رحمه الله: «الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه»، وقال أحمد بن أبي الحواري، رحمه الله: «من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله». وقال ابن عطاء: «من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه»
>[24] .
11- كما يستشهد في الضابط الخامس من ضرورة (تعلم العلم الشرعي) بما نقل عن أبي عمرو بن نجيد أنه قال: «كل حال لا يكون نتيجة علم، فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه»
>[25] .
[ ص: 95 ]