المبحث الأول
>[1] دور الوقف في دعم مؤسسات الرعاية الصحية
- المطلب الأول: مساهمة الوقف فـي المجال الطبي عبر التاريخ الإسلامي:
إن المتتبع لتاريخ الطب والمستشفيات في المجتمع المسلم يجد تلازما شبه تام بين تطور الأوقاف واتساع نطاقها وانتشارها في جميع بلاد المسلمين من جهة وبين تقدم الطب، كعلم وكمهنة، والتوسع في مجال الرعاية الصحية للمواطنين من جهة أخرى. حيث يكاد يكون الوقف هو المصـدر الأول وربما الوحيد في كثير من الأحيان للإنفاق على العديد من المستشفيات
[ ص: 163 ] والمدارس والمعاهد الطبية، وأحيانا تجد مدنا طبية متكاملة تمول من ريع الأوقاف، علاوة على ما تقدمه الأوقاف من أموال تصرف على بعض الأمور المتعلقة بالصحة مثل الحمامات العامة وتغذية الأطفال ورعاية العاجزين وغير ذلك.
وقد ظل الحال على هذا قرونا عديدة؛ ولذلك يذهب كثير من المحللين للتاريخ الإسلامي إلى أن التقدم العلمي وازدهار علم الطب والصيدلية والكيمياء في بلاد المسلمين كان ثمرة من ثمرات نظام الوقف الإسلامي
>[2] . ولا يتسع المجال لحصر الأوقاف الإسلامية في مجال الطب والصيدلة والتمريض والتعليم الطبي، ولكن نورد هنا بعض الأمثلة لذلك باختصار.
لقد ساهم الإنفاق على الجانب الصحي، في مجال الأوقاف، في توفير الجانب الوقائي والعلاجي، وحتى في مجال البحث والتطوير، والأمثلة على ذلك كثيرة منها مثلا ما يخص توفير المياه الصالحة للشرب.
فلقد كان توفير مياه الشرب للناس من أوائل أهداف الوقف الإسلامي. وقد تمثل ذلك ابتداء في بئر رومة من وقف سيدنا عثمان، رضي الله عنه. ثم عمت أوقاف مياه الشرب في جميع المدن والقرى في طول بلاد المسلمين وعرضها، حتى أن ظاهرة بيع مياه الشرب انعدمت تماما في البلاد الإسلامية
>[3] .
[ ص: 164 ] وكان في عمان وقف على الأفلاج، وهي قنوات مائية تنحدر من الجبال غالبا، وأغلب القرى العمانية تعتمد عليها للحصول على الماء للشرب أو للزراعة، وكان الوقف عليها لضمان استمرار تدفق الماء فيها، فكان ينفق من ريعه على نظافتها والحفاظ عليها من الانسداد
>[4] .
كما كانت هناك أوقاف للنهوض بصحة الأمهات، وبالتالي صحة الأطفال، وذلك ضمن ما يسمى بوقف نقطة الحليب.. وكان مما وقفه صلاح الدين الأيوبي، رحمه الله، وقف لإمداد الأمهات بالحليب، لهن ولأطفالهن، فقد جعل في أحد أبواب قلعة دمشق ميزابا يسيل منه الحليب وميزابا آخر يسيل منه الماء المذاب بالسكر، تأتي الأمهات يومين في كل أسبوع فيأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر
>[5] .
1– المستشفيات:
وقفت المستشفيات في كثير من بلاد المسلمين ووقفت عليها الأراضي والبساتين والدور والحوانيت وغيرها، لضمان استمرارها في تقديم خدماتها، ولم تكن هذه المستشفيات أماكن للعلاج فقط بل كانت أيضا معاهد للتعليم في مجال الطب والتمريض، كما كان يكفل للمريض فيها العلاج والغذاء والكسوة وجميع متطلباته. وقد كان يطلق على المستشفيات لفظ (مارستان) ،
[ ص: 165 ] وهي كلمة فارسية تعني دار المريض، ومن أشهر تلك المستشفيات: المستشفى العضدي ببغداد، والمستشفى المنصوري في القاهرة، والمستشفى النوري في دمشق، والمستشفى المنصوري بمكة المكرمة، وغيرها كثير.
وعلى سبيل المثال، عرف عن المارستان المنصوري بالقاهرة دقة التنظيم وفائق العناية بالمرضى. وقد أنشئ سنة 682هـ لعلاج الملك والمملوك، والكبير والصغير، والحر والعبد، وكان هذا المستشفى الكبير الذي وصفه (ابن بطوطة) بأنه يعجز الواصف عن محاسنه، كان مقسما إلى أربعة أقسام: للحميات، والرمد، والجراحة والنساء؛ وخصص لكل مريض فرش كامل، وعين له الأطباء والصـيادلة والخدم، كما زود بمطبخ كبير، وكان المريض إذا ما برئ وخرج تلقى منحة وكسوة.
وقدرت الحالات التي يعالجها المستشفى في اليوم الواحد بعدة آلاف، وألحقت به مدرسـة للطب يجلس فيها رئيس الأطباء لإلقاء درس طب ينتفع به الطلبة
>[6] .
ومن أشهر تلك المستشفيات، التي قامت كذلك على أموال الوقف: مارستان ابن طولون، بناه أحمد بن طولون، رحمه الله، في عام 259هـ، ويعرف بـ (البيمارستان العتيق) .. ولما فرغ منه حبس عليه دار الديوان، ودوره في الأسكافة والقيسارية وسوق الرقيق.. وعمل حمامين للمارستان
[ ص: 166 ] أحدهما للرجال والآخر للنساء، حبسهما على المارستان وغيره، وشرط أنه إذا جيء بالعليل تنـزع ثيابه ونفقته وتحفظ عند أمين المارستان ثم يلبس ثيابا ويفرش له ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ ...
وقد ظل هذا المارسـتان قائـما يؤدي خدماته للمرضى إلى القرن التاسـع الهجـري
>[7] .
وهكذا كان القادرون من المسلمين يتسابقون في وقف المستشفيات والوقف عليها من أموالهم وممتلكاتهم مما أدى إلى ازدهار مهنة الطب عندهم، حيث بلغ عدد المستشفيات في بعض المدن أكثر من خمسين مستشفى في وقت واحد، بينما لم يكن يوجد في أوروبا في حينه أي مستشفى يوازي أيا منها
>[8] .
ولقد بلغ من عناية المسلمين بالمستشفيات لكي تقوم بأداء الخدمات نحو مرضاها بصورة متكاملة وتساهم في تطور صحة المجتمع، أنه كانت توقف الوقوف الكاملة لبناء أحياء طبية متكاملة الخدمات والمرافق.. فمثلها تنشأ في العصر الحديث المدن الطبية، كان في العصور الإسلامية الزاهرة تقام المدن الطبية كذلك.
ويذكر ابن جبير في رحلته عند وروده بغداد أنه وجد حيا كاملا ومهما من أحياء بغداد يشبه المدينة الصغيرة، كان يسمى بسوق المارستان، يتوسطه قصر فخم جميل وكبير تحيط به الفياض والرياض والمقاصير والبيوت المتعددة وجميع المرافق الملوكية، على حد تعبيره، وكلها أوقاف وقفت على
[ ص: 167 ] علاج المرضى، وكان يؤمه المرضى وطلبة الطب والأطباء والصيادلة والذين يقومون على تقديم الخدمات إذ كانت الخدمات والنفقات جارية عليهم من الأموال الموقوفة في أطراف بغداد على هذا الحي الزاهر
>[9] .
لقد كان من أبرز ثمار الوقف الرعاية الطبية، التي تتمثل بإقامة المارستانات، حيث يعالج المرضى ويتناولون الأدوية والأغذية مجانا، هذا إلى جانب تقديم خدمات طبية لبعض المؤسسات والجهات وإرسال أطباء للمعالجة. وترد إشارات إلى إرسال الأطباء إلى الأرياف لعلاج المرضى في فترة ما. وكان هناك تنوع في المستشفيات بما فيها مستشفيات للمجانين والمجذومين. وكانت بعض المستشفيات مراكز لتعليم الطب، فيعين شيخ للاشتغال بعلم الطب أو مدرس للطب، ينفق عليه وعلى عدد من الطلبة الذين يشتغلون معه بالطب
>[10] .
وفي إطار الرعاية الصحية أيضا، يقول ابن بطوطة في حديثه عن أعمال أبي عنان الخيرية: «ومنها بناء المارستانات في كل بلد من بلاده، وتعيين الأوقاف الكثيرة لمؤن المرضى، وتعيين الأطباء لمعالجتهم، والتصرف في طبهـم، إلى غير ذلك مما أبدع من أنواع المكارم وضروب المآثر». وأمثال أبي عنان كثير، منهم
>[11] :
[ ص: 168 ] - مجاهد الدين قايماز، الخادم الرومي الحاكم على الموصل، بنى الجامع المجاهدي، والمدرسة والرباط والمارستان بظاهر الموصل على دجلة، ووقف عليه الأوقاف، وكان عليه رواتب كثيرة بحيث لم يدع في الموصل بيت فقير إلا أغنى أهله.
- السلطان يعقوب، لما استقام له الأمر بنى المارستانات للمرضى والمجانين، ورتب لهم الأطباء لتفقد أحوالهم، وأجرى على الكل المرتبات والنفقات من بيت المال، وكذا فعل بالجذمى والعمي والفقراء، رتب لهم مالا معلوما يقبضونه في كل شهر...».
- أبو يوسف الموحدي، أنشأ مستشفى دار الفرج، يدخل العليل فيعاين ما أعد فيه من المنازل والمياه والرياحين والأطعمة الشهية والأشربة المفوهة، ويستطعمها ويستسيغها فتنعشه من حينه.
- يذكر المقريزي أن الأمير صرغتمش نـزل إلى المارستان المنصوري ودار فيه على المرضى وساءه ما رأى من ضياعهم وقلة العناية بهم فاستدعى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد بن خطيب بيت الآبار، وعرض عليه التحدث في المارستان كما كان عوضا عن ابن الأطروش، فامتنع من ذلك، فما زال به حتى أجاب، وركبا إلى أوقاف المارستان بالمهندسين لكشف ما يحتاج إليه من العمارة، فكتب تقدير المصروف ثلاثمائة ألف درهم فرسم بالشروع في العمارة، فعمرت الأوقاف حتى ترفع ما فسد منها، ونودي بحماية من سكن فيها، فزاد ريع الوقف في الشهر نحو أربعين ألف درهم، ومنع من يتعرض إليهم، وانصلحت أحوال المرض أيضا.
[ ص: 169 ] - وفي العهد الموحدي ازدهرت المستشفيات، ولعل مرد ذلك تقدم العلوم الطبية في المغرب والأندلس.
وفي مثل هذه المستشفيات – ولاشك - يعالج المسلم وغير المسلم عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته الربانية في معاملة غير المسلمين المقيمين في الديار الإسلامية أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فيعالج المرضى عموما ويتناولون الدواء والغذاء مجانا ويرسل الأطباء إلى الأرياف.
ووجدت أوقاف للطب النفسي، ففي طرابلس هناك وقف لتوظيف شخصين يمران كل يوم على المرضى في المستشفيات يكون عملهما التحدث بصوت خافت يسمعه المريض بحيث يوهمانه أنهما يتكلمان بصوت عادي فيما بينهما، يقول أحدهما للآخر: إني أرى اليوم فلانا أحسن منه بالأمس؛ ويجيبه الآخر بالإيجاب. إضافة إلى وجود فرقة تمثيل وإنشاد في مستشفى السلطان قلاوون بالقاهرة غايتها تخفيف الآلام عن المرضى
>[12] .
2 – التعليم الطبي:
انطلاقا من اهتمام المسلمين بشؤون الصحة فقد تنبهوا لأهمية التعليم الطبي، نظريا وعمليا، وأنشأوا المستشفيات التعليمية المتخصصة من أموال الوقف، ومن ذلك إنشاء مستشفيات متخصصة للرمد وأخرى للأمراض العقلية وأخرى لمعالجة الجذام وغيرها. ويقال: إن أول من سن هذه الطريقة
[ ص: 170 ] هو الخليفة المأمون، إذ بنى هذه المستشفيات المتخصصة في المدن الكبيرة ووقف عليها وأرصد لها الحوانيت والمسقفات للصرف من ريعها على احتياجات هذه المستشفيات، وقد وجدت هذه المستشفيات التعليمية في كافة أنحاء العالم الإسلامي. وكان الطلبة يتمرنون في هذه المستشفيات تحت إشراف أساتذتهم.
أما كليات الطب ذات الدراسة المنتظمة فقد أتت في مرحلة لاحقة على ذلك، إذ نجد الوقفيات في العصر العباسي ابتدأت تشترط إنشاء كليات للطب متخصصة، وأن تنشأ بحيث تتزامن مع إنشاء المستشفيات التعليمية، فقد ألحقت مدرسة للطب مثلا بمدرسة المستنصرية، واشترطت الوقفية التي أنشأت هذه الكلية أن يتردد الأطباء الأستاذة مع طلبتهم على مرضى مدرسة المستنصرية صباح كل يوم لمعالجة المرضى وإعطائهم الدواء، وأن تكون هنالك أقسام داخلية للطلبة مع مخصصات شهرية تدفع لدارسي الطب، عدا المواد العينية التي كانت توزع عليهم كل يوم.
وقد كان تدريس الطب نظريا يجري في تلك المستشفيات، حيث كان في المستشفيات الكبرى قاعات كبيرة للمحاضرات، يلقي بها الأساتذة محاضـراتهم والطـلبة معهم كتبهم وآلاتهم، وتجرى المناقشـات الطـبية، ثم يصطحب الأستاذ تلامذته للمرور على المرضى لمعالجتهم ولتمرين الطلاب على الحالات العملية.
ولم يكن يسمح للطبيب بعد تخرجه بالمعاينة والمعالجة إلا بعد أن يؤدي اختبارا أمام كبير الأطباء ويقدم رسالة في نوع تخصصه الذي يرغب
[ ص: 171 ] الحصول على الإجازة فيه مثل حقل الجراحة، والكحالة أو أمراض العظام والتجبير أو في غيرها من التخصصات، فإذا اجتاز الاختبار منح الشهادة وزاول مهنة الطب
>[13] .