تمهيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد،
فإن ظاهرة التحضر تعد من الظواهر القديمة في العالم، وكانت أشكال التحضر تتناسب مع واقع تلك العصور، حيث حاول الإنسان العيش في المدن منذ آلاف السنين؛ ولقد ظهرت في بداية الأمر القرى ثم تطورت إلى قرى كبيرة ثم مدن ومراكز حضرية.. كما تعد ظاهرة اتساع المدن ظاهرة عالمية وليست خاصة بمنطقة دون أخرى، إلا أن عملية التحضر في الخليج العربي تتصف بخصائص جعلتها تختلف عن غيرها، إذ تعيش المدن في الخليج العربي عهدا مختلفا من النمو، من حيث السرعة الهائلة التي يمر بها هذا النمو عمرانيا، إذ تضاعف نمو الكثير من المدن الخليجية في العقدين الماضيين بشكل ملفت وواضح للعيان، حيث يستطيع الزائر لأي مدينة خليجية أن يلحظ الفرق التمددي للمدينة خلال فترة وجيزة قد لا تتجاوز السنوات.
ويمكن القول: إن دول الخليج العربي شهدت تحولات مهمة تزامنت مع اكتشاف النفط ومن ثم تزايد عائداته، حيث كان هو الشريان المغذي لعمليات التحول في المنطقة بشكل عام، مما أدى إلى نهضة اقتصادية وعمرانية وبشرية شاملة، فضلا عن التزايد في عدد السكان الناجمة عن الزيادة الطبيعية
[ ص: 25 ] وعن موجات الهجرة من الريف ومن البادية إلى المدينة الخليجية لاعتبارات عدة أبرزها البحث عن عمل أو التعليم، وكل ذلك أدى إلى دفع عملية التحضر بشكل سريع وعشوائي أحيانا وإن كانت هذه السرعة تتباين من دولة إلى أخرى.
وهذا التسريع في عملية التحضر أفرز تغيرات أخرى مصاحبة في البناء الاجتماعي للمجتمعات الخليجية، بمعنى أنها بدأت تؤثر في طبيعة العلاقات التي تنشأ بين الأفراد في الأسرة الواحدة، وبين الفرد والمجتمع، وبين الجماعات فيما بينها، وبالتالي تزعزع الكثير من القيم، والعادات، والمفاهيم لتلك المجتمعات، ويصاحب ذلك ظهور قيم ومفاهيم جديدة لها تتواكب أحيانا مع هذه التغيرات وتتصادم معها أحيانا أخرى، نتيجة لتلك التغيرات السريعة والعشوائية، مما يولد عدة صعوبات ومشكلات اقتصادية، واجتماعية، وبيئية، وإدارية، في بنية المدينة الخليجية، وحينئذ تزول روح الترابط، والتكامل، والتنسيق المتوازية في كل عمل سليم بين نمو المجتمعات من جانب ونمو العمران من جانب آخر. إلا أنه مما يلاحظ ندرة الدراسات الاجتماعية التي ترصد مثل هذه التغيرات الاجتماعية التي مرت بها منطقة الخليج جراء هذه الطفرة النفطية، وهذا ما يشير إليه أحد المختصين بقوله: «هناك ظواهر أخرى حدثت في مجتمعات المدن الخليجية، ولم نجد من الباحثين الاجتماعيين، أو غيرهم قد تطرق لها بأي تحليل، أو بحث، يستخلص لنا هذه القوانين التي سيرت تعامل أبناء هذه المنطقة مع هذه
[ ص: 26 ] الظواهر والمتغيرات، وهل هي نفس الظواهر والمتغيرات التي سيرت المجتمع العربي في ليبيا، أو في الجزائر أيضا، وهما بلدان نفطيان، أم هناك اختلافات؟ إن هذا الجانب من تطور المجتمع، لا يزال كنـزا غارقا ينتظر الكثير من المهتمين، والباحثين للتنقيب عنه»
>[1] .
إن ردود الأفعال التي تقوم بها المجتمعات جراء التغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية المتواصلة التي تصيب المجتمعات بشكل عام تختلف آثارها بحسب قدرة هذه المجتمعات على التعامل مع تلك التغيرات بصورة عملية وبقدرة فائقة على استيعابها بشكل حضاري.. ومما يعزز قوة أي مجتمع للتعامل مع هذه التغيرات هو مدى وجود رصيد حضاري وثقافي وعقدي قوي يمتلكه أفراد المجتمع وعمومه ليكون هو المرجعية في التعامل مع هذه التغيرات الجديدة، وهذا ما يميز المجتمع الخليجي إلى حـد كبير، وذلك لما يتصف به من تمسك بدينه الإسـلامي، وعـاداته العربية الأصيلة، وهذا ما يجعل التعامل مع هذه التغيرات وتلقيها بشكل حضاري ومن ثم صهرها في صورة متزنة تتواءم إلى حد كبير مع قيم المجتمع وعاداته العربية الأصيلة مسألة لا تبدو صعبة بشكل كبير خاصة إذا كان هناك استعداد علمي
[ ص: 27 ] وعملي مسبق لهذه العملية برمتها، وتنسيق مبرمج بين التخصصات العمرانية والاجتماعية
>[2] .
وفي العقد الأخير من القرن شهدت المدن الخليجية عملية تحولية كبيرة اتصفت بمظهرين أساسين: أولهما ديموغرافيا، ويتمثل في تزايد عدد سكان هذه المدن الخليجية بشكل كبير وسريع جدا
>[3] ، وذلك نتيجة عوامل عدة مترابطة ومتداخلة، نتج عن ذلك المظهر الثاني من مظاهر التحول الكبرى، وهو التوسع في بنية المدينة ذاتها وتمددها رأسيا في بعض الدول الخليجية
[ ص: 28 ] وأفقيا في بعضها الآخر بحسب الإمكانات المكانية والقدرات الفنية لكل مدينة من المدن الخليجية، وهذه التحولات ظاهرة للعيان ومشاهدة لكل ساكن أو زائر لها، إلا أن هناك مظاهر تحول لا يراها إلا القلة من المختصين ويستشرفون شكلها القادم، وهي التحولات الاجتماعية التي لا تأخذ شكلها النهائي أو البارز للعيان إلا بعد عقود من الزمن، وإن كان الناس في المدينة يتعايشون معها وقد يتأثرون بها ويتعاملون معها ولكن آثارها بشكل عام تحتاج إلى تجييش القدرات العلمية للتعامل معها بشكل عقلاني وتقليل أثرها إلى الحد الأدنى منه.
وفي هذه الدراسة سيكون الحديث عن ظاهرة اجتماعية تتصاحب عادة مع التوسع العمراني، والتمدد الأفقي، والرأسي لأي مدينة معاصرة، ومحور هذه الظاهرة يدور حول العلاقات الاجتماعية بين الناس، أفرادهم ومجموعاتهم، في ظل هذا التباعد المكاني بين الأفراد في المدينة الواحدة من جانب وبين التباعد الاجتماعي من جانب آخر بين سكان المدينة الواحدة، بغض النظر عن طبيعة القرابة أو الحميمية التي تنشأ بينهم، سواء كانت دائمة أو مؤقتة، ففي ظل التنامي العمراني الملحوظ للمدينة الخليجية وتزايد عدد سكانها بعد أن كانت هذه المدن صغيرة نسبيا وسكانها لم يفدوا عليها بعد من الأرياف والبوادي واستقرار الكثير من السكان في المدينة إذ أصبحت في فترة وجيزة مركز جذب قوي للسكان من الداخل وكذلك من الخارج، وتجمع هذه المجموعات البشرية بكل ما تحمله من ثقافات وقيم وعادات
[ ص: 29 ] موروثة، أفرز العديد من الآثار والمشكلات الاجتماعية، كما أوجد شكلا جديدا آخر من طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والأفراد، وبين الأفراد والجماعات في المدينة الواحدة.
وحين الحديث عن هذه الظاهرة لابد من الإشارة إلى جانب مهم في هذا الموضوع، فقد كان من أسباب هذه الظاهرة الاجتماعية، المصاحبة لتوسع المـدن، طبيعـة تخطيط الأحياء السكنية، حيث غاب عن المخطط - وللأسف - البعد الإنساني العام للحي السكني، فلم يستطع الوصول به إلى بيئة مواتية لازدهار النشاط البشري وتحقيق التفاعل الاجتماعي بين سكان الحي الواحد، وهذا ما حدا ببعض أمانات المدن الكبرى في بعض الدول الخليجية إلى إعادة النظر في تصميم الأحياء بشكل جذري لإضفاء الروح الاجتماعي على التخطيط العمراني للحي، وما ذلك إلا شعور من المخططين أن هناك ثمة ثغرة اجتماعية في نسيج المجتمع أوجدها التخطيط السابق، الذي غاب عن باله البعد الإنساني والجانب الاجتماعي وهو يخطط للأحياء الجديدة في المدن في أثناء توسعها في العقود السابقة
>[4] .
[ ص: 30 ] ومما يسهل الحديث عن هذه الظاهرة الاجتماعية على مستوى المدن الخليجية بدرجة متناقصة من الاختلافات بينها هو أن منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية بشكل عام تعد كيانا جغرافيا واحدا، وبخاصة أنها تمتلك جذورا تاريخية وحضارية مشتركة، وخصـائص اجتماعية وثقافية متماثلة أو متقاربة إلى حد كبير، فقد كانت القبائل والعشائر والعائلات على صلات وروابط متميزة، ولا تزال كذلك، كما أن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية لدول المنطقة وشعوبها متشابهة نسبيا وبشكل كبير، إضافة إلى أن مصالحها، ومصيرها، ومستقبلها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والجغرافي مرتبط بمدى النجاح الذي يمكن تحقيقه فيما بينها بأقصى درجات التنسيق والتكامل على كل الأصعدة فيما بينها.
لقد كان الاهتمام بالإنسان في الدول الخليجية كبيرا باعتباره الركيزة لأي تنمية ونهضة شاملة، فلا يتصور نهضة حضارية بدون الركيزة الأساسية وهي الإنسان؛ وتحقيق بناء الإنسان الخليجي بشكل متكامل يتطلب رعايته الرعاية الشاملة ذات الأبعاد الثلاثة الأساسية وهي: تعليمه ليكون متسلحا بالعلم الصحيح القائم على النهج القويم؛ والركيزة الثانية تحقيق صحة بدنية وعقلية له لكي يتمكن من المساهمة في نهضة وطنه ومنافسة الدول المتقدمة بقوة؛ والركيزة الثالثة تقديم الرعاية الاجتماعية إليه بشكل متكامل، بدءا من مولده وحتى عجزه أو وفاته.
[ ص: 31 ] ومن المعلوم أن هناك العديد من المقاييس التي ينظر إليها حين رصد تطور أي من المجتمعات، إضافة إلى التعرف على مدى تناغم عدد من المجتمعات، المتجاورة أو المنضوية تحت مظلة واحدة، ومن هذه المقاييس مستوى التعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، ومدى قربها أو بعدها وتنافرها وتجاذبها لبعضها بعضا، ولئن كان الحديث في هذه الدراسة سيتركز في المجال الاجتماعي، إلا أنه لا يمكن عزل أحدها عن الآخر، فكل واحد منها يؤثر في الآخر تأثيرا مباشرا وغير مباشر، ويزداد قوة وضعفا بقدر نظرتنا لها وليس حسب واقعها، فالحديث عن الجانب الاجتماعي من باب تحديد مجال الدراسة ومنعه من التشتت وإلا فلا يمكن بحال تصور أحد هذه المجالات دون الآخر.
ومن هنا تأتي هذه الدراسة لإلقاء الضوء على جانب من جوانب المجتمع الخليجي من خلال التعرف على العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد في المدينة الخليجية، ومحاولة إعادة ترتيبها وتنشيطها وصولا إلى تحقيق المزيد من الترابط والتكاتف، فإنه على الرغم من وجود العديد من الدراسات التي تناولت الدول الخليجية ومجتمعاتها إلا أن الملاحظ على أغلب تلك الكتابات والدراسات تركيزها على الجانب التاريخي والسياسي والاقتصادي، ثم يأتي التركيز على الجانب العلمي والثقافي في المرتبة الثانية من حيث الاهتمام والتدوين والرصد، فالدراسات الاجتماعية عن المجتمع الخليجي أبان فترة التحولات الكبرى التي مر وما يزال يمر بها المجتمع
[ ص: 32 ] الخليجي قليلة جدا، وذلك قبل أن يصل إلى مرحلة تتصف إلى حد كبير بالاستقرار السياسي والاقتصادي.
إن المتخصص يجد صعوبة في رسم صورة اجتماعية للمجتمع الخليجي في المراحل التاريخية السابقة، وهي الفترة السابقة لاكتشاف النفط والمرحلة التي تلت ذلك مباشرة سوى ما يجده من خلال بعض الدراسات التي حاولت رسم ملامح الحياة الاجتماعية في كل دولة بشكل منفرد - وهي قليلة - أو في كتب الرحالة الذين زاروا بعض المناطق في الخليج، حيث يغلب على دراسات الرحالة التركيز على الوصف الجغرافي والأرض وتاريخ المنطقة، أو بعض العادات
>[5] ؛ من ذلك كله يمكن القول: إن الجانب الاجتماعي من التاريخ الخليجي لايزال ينتظر تلك الالتفاتة من المختصين، فتاريخ المنطقة لا يزال في حاجة إلى دراسات كثيرة يركز فيها على الجوانب الاجتماعية شريطة أن تكون ذات حدود زمانية ومكانية محدودة.
وتحاول هذه الدراسة الإجابة عن تساؤل رئيس يتمثل في السؤال الآتي: ما الآثار الاجتماعية الناتجة عن التوسع العمراني في مدن الخليج ؟ ومن ثم التساؤلات الفرعية المنبثقة عنه، وهي:
- ما طبيعة العلاقة بين أفراد المجتمع قبل التوسع العمراني؟
وما خصائص هذا المجتمع؟
[ ص: 33 ] - ما مظاهر التوسع العمراني في دول الخليج العربي؟
- ما الآثار الاجتماعية الناشئة من التوسع العمراني؟
- ما طبيعة العلاقات الاجتماعية في ظل التوسع العمراني؟
- ما الحلول العملية لتجاوز تلك الآثار والمشكلات الاجتماعية الناشئة من التوسع العمراني في المدينة الخليجية؟
كما تنبع أهمية هذه الدراسة كونها تمثل جزءا من دراسة المجتمع الخليج في تلك المرحلة الزمنية التي تتسم بالنقص الشديد في الدراسات الاجتماعية عنه، وطبيعته وخصائصه، وستتم هذه الدراسة وفق المحاور الآتية:
أولا: المجتمع الخليجي من خلال:
- واقع المجتمع في تلك الفترة وخصائصه.
- العلاقات بين أفراد المجتمع وكيف كانت.
ثانيا: مظاهر التوسع العمراني في دول الخليج العربي.
ثالثا: الآثار الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني.
رابعا: العلاقات الاجتماعية في ظل التوسع العمراني.
خامسا: مقترح عملي لتجاوز المشكلات الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني.
والله الموفق.
[ ص: 34 ]