8- تنامي ظاهرة الخدم والمربيات الأجنبيات في المنازل الخليجية:
إن من حكمة الله عز وجل أن فاوت بين خلقه في الرزق والقدرات، فلا يوجد من هو مكتف بنفسه عن الآخرين، ومن أجل هذا التفاوت بين البشر أصبح بعضهم في حاجة إلى ما هو مفقود عنده مما هو موجود عند غيره، فالفقير في حاجة إلى تحصيل المال الذي بوساطته يحصل على متطلبات حياته، والغني في حاجة إلى خدمات غيره.. والضعيف في حاجة إلى غيره ممن يساعده في القيام بما يعجز عنه لأي سبب من الأسباب، وهذا ما يجعل الإنسان في حاجة إلى غيره، ومن هنا كان استخدام الإنسان للإنسان أمرا ضروريا لوجود هذا التفاوت بين الناس، وعملية الإخدام والخدمة مهنة قديمة جدا، وقد عرفتها غالبية المجتمعات الإنسانية واعتبرتها ضرورة اجتماعية
[ ص: 99 ] واقتصادية، وإن كانت تبدلت في بعض صورها وعقودها، وقد أصبحت عملية الإخدام منظمة بشكل يتناسب والتطور الإداري في العالم، وبخاصة في المجتمعات التي حباها الله بالثروات كما في الدول الخليجية، فكان منها استقدام الأعداد الكبيرة جدا من العمالة المنـزلية إلى تلك الدول بمختلف أنواعهم (خادمات، مربيات، طباخات، سائقين، حراس، مزارعين) . بل وصل الأمر إلى أن أصبحت العمالة المنـزلية جزءا من تكوين معظم الأسر في المجتمع، حيث انتشرت وصارت المساكن تصمم وتبنى في كثير من الأحيان وفيها غرف مخصصة للخادمة والسائق
>[1] .
وهذه الظاهرة تتزايد بطبيعة الحال، في المدن دون الريف أو القرى، وهي ظاهرة فرضتها الحياة المدنية والانشغالات الوظيفية لأرباب الأسر من جانب، ودخول المرأة بخاصة في سوق العمل في المدينة من جانب آخر، وهذا ما تظهره الدراسات الميدانية في بعض المدن الخليجية، حيث كان هناك ارتباط مباشر بين خروج المرأة للعمل وانتشار ظاهرة العمالة المنـزلية
>[2] ، فالواقع الاقتصادي للأسرة في المدينة قد يتطلب انشغال الأبوين بشكل شبه دائم ، فكان لا بد من وجود هذه الخادمة أو المربية في المنـزل، فكان أن
[ ص: 100 ] تسلمت هذه العمالة جزءا من المسؤولية الأسرية بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر. بل أصبحت تنافس الأسرة في بعض جوانب التنشئة، «فنتيجة لجنوح الوالدين إلى حياة الدعة والترف والاتكالية على العمالة الأجنبية ذات المستوى المتدني والمتوفرة بكثرة بدأ الأهل يديرون ظهورهم للتنشئة وحل محلهم في ذلك الخدم»
>[3] ، فبرز هنا ظاهرة (الخادمة المربية) في الوقت نفسه، فأساس استقدامها هو للخدمة المنـزلية، ولكنها تتحول مع مرور الوقت وتهاون الوالدين إلى مربية للأبناء، ومما يؤسف له أن هذا هو واقع الحال لدى قطاع كبير من الأسر في المدينة الخليجية، شاءت الأسرة أم أبت، ومكمن الخطورة هنا هو أن هؤلاء الخدم حين انتقلوا إلى المجتمع لم ينتقلوا بأشخاصهم فحسب، لكنهم نقلوا معهم عادات مجتمعاتهم وتقاليده وثقافته، التي هي مغايرة تماما للقيم والثقافة الإسلامية والعادات العربية الخليجية السائدة في المجتمع.
كما أدت «مهارة وصبر العديد من الخادمات إلى سيطرة شبه كاملة على أعمال المنـزل.. ولقد أدى ذلك إلى أن تفرض الخادمات أذواقهن في الطعام وترتيب المنـزل، وقد يكون أثرهن أبلغ وأعمق فيما هو غير منظور
[ ص: 101 ] أو مرئي أو ما يتعلق بالأمور التي تأخذ وقتا طويلا للظهور مثل تربية الأطفال وتنشئتهم»
>[4] ، ولهذا الوضع أثر كبير على مختلف أفراد الأسرة والمجتمع بشكل عام سواء في بعده الشرعي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، الذي هو مدار الحديث هنا.
إن عملية الإخدام ليست بجديدة على البشرية، كما ذكر آنفا، وكان الخادم أو الخادمة في السابق - في الغالب الأعم - من البيئة المحلية ومن الوسط الثقافي نفسه وتتحدث لغة المجتمع نفسه. ولكن الوضع الحالي للخدم في الأسرة في المدينة الخليجية مختلف بشكل كبير جدا عن السابق، فالخادمة أو المربية أو الطباخة أو السائق بعيدين كل البعد عن المجتمع الخليجي، فاللغة مختلفة تماما، والديانة كذلك، حيث توجد أعداد كبيرة من الديانات المختلفة ممن تم استقدامهم للخدمة المنـزلية، فضلا عن التباين في المستوى الثقافي العام للطرفين، ففي إحدى الدراسات الميدانية على عدد من الدول الخليجية تبين أن ترتيب الديانة للمربيات في البيت الخليجي كان على النحو الآتي: الديانة المسيحية أولا، ثم البوذية، ثم الهندوسية، ورابعا تأتي الديانة الإسلامية
>[5] . ولئن كانت الدراسة قديمة إلى حد ما حيث مضى عليها قرابة
[ ص: 102 ] العشرين عاما، لكنها لا تخلو من دلالات لا يمكن التغافل عنها؛ وفي دراسة أحدث على المجتمع القطري أظهرت الدراسة أن (68.5 %) من الخادمات يعتنقن غير الإسـلام
>[6] . ومن هنا فـكل ذلك منذر بالخطر الاجتمـاعي لما تتصف به هذه العمالة من تغلغل وسط الأسرة بشكل عميق وطويل الأثر، هذا إذا سلمنا من الأثر العقدي على الطفل جراء رؤيته لمربيته وهي تمارس شعائر دينية خاصة بها.. ألا يمكن أن يتعلق بها، وبخاصة إن كانت ممن تحسن لهذا الطفل بشكل محبب له يجعله يتعلق بها نفسيا ووجدانيا؟!
إن وجه الخطورة الآخر من الناحية الاجتماعية والثقافية يتمثل في تعلم الطفل لغة هجينة جراء مكثه في أحضان الخادمة أو المربية فترة طويلة، فلقد وجد في إحدى الدراسات أن (78%) من الأطفال في المجتمع القطري يتفاهمون مع الخادمة بلغة الخادمة الأصلية، أي أن التكيف يسير في اتجاه لغة الخادمة أكثر مما يسير في اتجاه لغة الطفل
>[7] . والنتائج نفسها أظهرتها ثلاث دراسات على المجتمع الكويتي
>[8] . كما أظهرت دراسة حديثة أجريت في
[ ص: 103 ] المملكة العربية السعودية الأثر السيئ على لغة الطفل وضعف الكلمات العربية فيها مما أثر على تحصيله الدراسي
>[9] .
وبالجملة، فإن وجود الخادمة في البيت الخليجي بهذا الوضع المتساهل، وبهذا الشكل غير المنضبط، وممارستها للتنشئة الاجتماعية للطفل تؤدي إلى مشاكل نفسية عميقة لدى الطفل، وذلك وفق نتائج إحدى الدراسات الميدانية في مدينة جدة، فهي تؤدي بالأطفال إلى «إعاقة نموهم الذاتي، وميلهم إلى العزلة والانطواء، وجعلهم غير متوافقين اجتماعيا، فضلا عن نشأتهم الاتكالية وعدم تقديرهم المسؤولية لاعتيادهم التساهل وتلبية كافة احتياجاتهم من قبل الخادمات»
>[10] .
ولقد أدى وجود الخادمة في المنـزل إلى تنامي ظاهرة اجتماعية أخرى لها أبعادها السلبية كذلك، فقد أظهرت إحدى الدراسات الميدانية في مدينة جدة أن توافر وقت فراغ لدى ربة المنـزل أوجد لها إمكانية صرف ذلك الوقت في ممارسات ترفيه قد لا تكون بحاجة ماسة لها مثل تزايد فترات التسوق وحضور حفلات أو خلافه، مما يزيد بشكل غير مباشر من ابتعاد الأم عن المنـزل والأبناء بصورة أو بأخرى
>[11] .
[ ص: 104 ] وإضـافة إلى ما ذكر فلا يمكن إغفال جانب آخر، له بعده الشرعي، ولا يخلو من بعد اجتماعي مؤثر في المستقبل، وهو أن بعض الأسر تتساهل في عملية الاختلاط بالخادمات، أو الخلوة والانبساط معهم، فقد نجد من الرجال من يخلو بخادمته الأجيرة، والمرأة قد تخلو بخادمها أو سائقها، بل قد تبرز محاسنها أمامه، وكذلك الأمر بالنسبـة للأولاد والبنات البالغين، وهذا مما لا يجوز شرعا، فقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من الخلوة، واعتبرها بداية الشر؛ لأن راعيها الشيطان، فيقول صلى الله عليه وسلم :
( ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ) >[12] ، ولاشك أن التعامل الشرعي في تحديد العلاقة المكانية بين الخادم والمخدوم، يجب أن يكون له اعتبار كبير في الواقع الاجتماعي للتعامل مع الخدم بشكل عام.
أما أثر تلك العمالة على المجتمع بشكل عام فلا يخفى، فهي تمارس العديد من عاداتها أو من معتقداتها في وسط المجتمع الذي تعيش فيه وكأنه شيء طبعي، ومن ذلك: ممارسة شعائرها الدينية، شرب الخمور، أكل لحم الخنـزير، الاختلاط، الممارسات الجنسية ما قبل الزواج، استقبال الأصدقاء الذكور من قبل الخـادمات في منازل كفلائهن، فكل هـذه الممارسـات
[ ص: 105 ] لا يمكن تجاهل أثرها، وهي تمارس بشكل علني، على الوضع الاجتماعي في المجتمع الخليجي؛ كما لا يمكن غض الطرف عن خطورة استسهالها من قبل المسلمين جراء التعود عليها، لذا كان من الحكمة التمسك بما قرره الإسلام وأكد أهميته من الحرص على عدم المجاهرة بالمعصية، حتى لا تتعودها الأنفس وتتجرأ عليها.
وبالجملة، فإن واقع التوسع العمراني فرض اسـتقدام كل هذه العمالة بما نتج عنها من انعكاسات سلبية اجتماعية وعقدية على المجتمع الخليجي، فهي عملية مترابطة، تبدأ بالتأثير على الطفل ثم تنتقل إلى الزوجين، ثم المجتمع بأسره في حلقات مترابطة متداخلة مع بعضها بعضا.