9- شيوع النزعة الاستهلاكية بين أفراد المجتمع:
وهذه الظاهرة تتزايد بين سكان المدن عادة، والشباب بشكل خاص، وهي ظاهرة تزامنت مع الانفتاح المجتمعي في المدينة، ونتيجـة طبعية للمغريات المادية، والتطور الكبير في فنون الدعاية والإعلان عن منتجات ليس بالضرورة أن يكون الفرد بحاجة لها، وتتزايد هذه الظاهرة في ظل توفر المال في أيدي الناس في فترات معينة، وبشكل كبير، وهو ما حدث تماما في الدول الخليجية نتيجة لتزايد دخول أفراد المجتمع جراء ارتفاع أسعار البترول بشكل كبير ومفاجئ، فكانت السيولة متوافرة، وكانت طفرة اقتصادية نقلت المجتمعات الخليجية من مجتمعات عاملة منتجة مكتفية إلى حد ما بما تنتجه إلى
[ ص: 106 ] مجتمعات تسـودها القيم الاستـهلاكية المحمومة الرافضة للعمل اليدوي؛ ومن مجتـمعات كانت تعيش حـد الكفاف إلى مجتمعـات تنعم بثروة طـائلـة لم تبـذل جهدا كبيرا للحصول عليها. وفي الطرف الآخر أصحاب الأعمال، الذين يعملون في سباق محموم لإغراء الناس بالشـراء حتى لو لم تكن ثمة حاجة حقيقية، ولا أدل على ذلك من رؤية مدى انتشار الأسـواق والمجمعات التجارية بشـكل غير طبيـعي في المدن الخليجية، ولن يكون من الصعوبة بمكان أن نرى ظاهرة تنامي الأسواق وكثرتها الطاغية جدا في بعض المدن الخليجية مثل: مدينة الرياض، أو جدة، أو دبي، على سبيل المثال.
فهـذه الظـاهرة نتيجة طبعية لإقبال الناس على الشـراء المحموم حتى لو لم تكن هناك حاجة حقيقية؛ وتزايد هذه الأسواق والتفنن في طريقة عرضها ومحتوياتها تجعل النـزعة الاستهلاكية في تزايد، ويستمر الدوران في حلقة لا تنتهي ولكن مؤداها المؤكد هو تحويل سكان هذه المدن وجعلهم يعيشون في مضمار تسابق للشراء والاقتناء في صورة سلبية من صور النـزعة الاستهلاكية المذمومة. ومما يؤسف له «أن تحسن الأوضاع الاقتصادية للفرد والمجتمع في الدول الخليجية لم يعكس أثره الاجتماعي على المجتمع إيجابيا، بل أكثر ما يظهر وكأن المجتمع لم يتطور اجتماعيا، بالمفهوم الموضوعي للاجتماع، وإذا ما استمر هذا التطور السلبي فإنه أول ما يعكس
[ ص: 107 ] آثاره السلبية أيضا - في المستقبل - على النواحي التربوية والأخلاقية والدينية وبالتالي الاقتصادية والسياسية»
>[1] .
إن هذه الظاهرة لا يمكن أن توجد في غير المدن لسبب رئيس هو أن تزايد السكان في المدينة يغري أرباب العمل بالتوسع في العرض والتنميق فيه، ويصاحبه إقبال الناس على الشراء تتبعا لعادات اجتماعية قد تفرضها ظروف العيش في المدينة ومسايرة أهلها لبعضهم بعضا، وإن ظاهريا، وهذا في الغالب لا يظهر في التجمعات السكانية خارج المدن الكبرى، وحتى إن وجد خارجها فلا يمكن أن يكون بالشكل الكبير الذي يبدو عليه في المدينة، ومن هنا يمكن النظر إلى هذه الظاهرة، وهي تزايد النـزعة الاستهلاكية لدى سكان المدن، باعتبارها نتيجة من نتاج التوسع الكبير فيها، ومحصلة متوقعة جراء الثقافة الاستهلاكية التي تتصاحب مع الثقافة السائدة لدى سكان المدينة.
كما لا يمكن إغفال جانب آخر مسبب لتلك النـزعة الاستهلاكية لدى سكان المدن، ألا وهو كون التسوق أصبح جزءا من الترفيه المشترك للعائلة، وقد يكون هو المتاح في ظل الضيق الترويحي الذي تعيشه المدينة الخليجية، فالدوران في الأسواق يبدأ بغير حاجة، لمجرد الترفيه فحسب، ولكن جودة العرض وحسن الترتيب يغري أحيانا كثيرة بالإقبال وشراء
[ ص: 108 ] الإنسان ما ليس له به حاجة
>[2] . ومكمن الخطورة هنا هو اصطحاب الوالدين أبناءهم الصغار معهم، فيشاهد هؤلاء الأبناء أنموذجا صارخا لسطوة الثقافة الاستهلاكية على الوالدين، فهما يقومان بشراء كميات هائلة من السلع. ومن المشاهد المألوفة حاليا أن العديد من الأسواق والمجمعات يوفر عربات صغيرة مخصصة لتسوق الأطفال، فنجد الكثير منهم يدفعون أمامهم العربات ويمارسون هواية الشراء على غرار آبائهم. ولاشك أن ذلك يؤثر بالسلب في التنشئة الاجتماعية لهؤلاء الصغار، الذين يدربون على أن يصبحوا كائنات استهلاكية في المستقبل.
[ ص: 109 ] إن من المفارقات الغريبة ما أشار إليه استطلاع إلكتروني أجرته «إيه سي نيلسن»، المزود الأول لبيانات التسويق في العالم، وشمل نحو ( 23) ألف مستهلك في (42) دولة حول العالم، تحت عنوان «ثقة المستهلك»، وأظهر أن (30%) من المستهلكين في دولة الإمارات العربية المتحدة يذهبون للتسوق بغرض «الترفيه» مرة واحدة أسبوعيا على الأقل، ليحتلوا بذلك المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد هونغ كونغ التي بلغت النسبة فيها (36%) .
إن مما يزيد من تنامي النـزعة الاستهلاكية ويؤكدها في الوقت نفسه هو تزايد ظاهرة الاقتراض من البنوك لسد جوانب كمالية في حياة الأسرة، فعلى سبيل المثال تزايدت قيمة القروض الاستهلاكية للأفراد من البنوك في المملكة العربية السعودية من (73) مليار ريال عام 1423هـ/2003م إلى (182) مليار ريال في عام 1427هـ/2007م
>[3] . وهي قفزة شـديدة، مما يؤكد أن القروض الشخصية الاستهلاكية وصلت إلى مستويات حرجة تتطلب ضرورة تشديد القيود على منحها، ووضع معايير وضوابط جديدة لتحديد أجل وقيمة هذه القروض وبخاصة أن بعض البنوك الخليجية أصبحت تقدم قروضا تعادل 50 ضعف الراتب، فهي التي تفتح الباب على مصراعيه أمام عملاء الاقتراض من خلال حملات دعائية لا تهدأ وتسهيلات مغرية تقدمها لاستقطاب أكبر قدر ممكن من العملاء لتصدير أكبر حجم ممكن من
[ ص: 110 ] القروض الشخصية مما يغري الكثير من الناس ويوقعهم في حومة الاستهلاك المذموم الذي يصل بهم إلى حد الإسراف المنهي عنه شرعا، وبخاصة عندما تكون القروض للجوانب الكمالية البحتة أو لمجرد تقليد الآخرين في السفر إلى الخارج في أشهر الصيف.
إن ثقافة الاستهلاك باتت تنخر في عظام مجتمع المدينة الخليجية، وتهدد أمنه واستقلاله وهويته، بل وتلقي به في مصيدة التبعية الاقتصادية والثقافية، مما يهدد الذات والوجود والهوية الوطنية، وبخاصة أن الظاهرة لم تقف عند حد معين، وإنما امتدت إلى أنماط سلوكية أخرى في الحياة اليومية للمواطن، مما جعلها تشكل ثقافة حياتية يومية بكل ما تحمله من آثار وتداعيات خطيرة وذات تأثير واضح في عقلية واتجاهات الأفراد والجماعات، ومن ثم تشكل تهديدا خطيرا للبناء والكيان الاجتماعي. ومما يزيد من عمق تلك المشكلة هو أن معظم المواد والأدوات والوسائل وحتى الوجبات الجاهزة، والأجهزة الاستهلاكية تأتي من الخارج، وبكل ما تنطوي عليه من أنماط وقيم ثقافية في معظمها غربية، وهذا يعني تكريس التبعية بكل صورها.
ومن الغرائب في هذا الشأن أن هذه الظاهرة «ظاهرة النـزعة الاستهلاكية» استرعت انتباه عالم الاجتماع المسلم (ابن خلدون) في مقدمته، بل قد يكون هو من أول من أشار إليها من بين علماء الاجتماع، وإن كان يطلق عليها اسما آخر وهو «التفنن في الترف»، بل يجعل هذه الظاهرة شبه متلازمة مع ظاهرة التحضر أو الحضارة كما يسميها، فيقول:
[ ص: 111 ] «والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيأة للمطابخ والملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنـزل؛ وللتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنـزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها. أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجز وينكب عن الوفاء بها»
>[4] . كما يشير في موضع آخر من مقدمته إلى أن أهل البادية يعجزون عن سكنى المدن؛ لأن المصر الكثير العمران يكثر ترفه.. وتكثر حـاجات ساكنه من أجل الترف، وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات.
>[5] [ ص: 112 ]