- فقدان العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة والمجتمع بشكل عام:
ويمكن أن يعبر عنه في أبرز مظاهره بضعف العلاقات بين سكان المدينة بشكل عام، وبين الجيران بشكل خاص، وهذا هو المشهد الأبرز الذي يمكن أن يلمسه كل راصد للظواهر الاجتماعية في أي مجتمع مدني، وهذه ما تنبه له ابن خلدون قبل ستة قرون حيث أشار إلى أن المدن تطبع سكانها بطابع خاص، وتؤثر في ثقافتهم ونشاطاتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية، كما أنها تتطور بسرعة من حيث الاتساع المكاني، وازدياد معدلات نمو السكان، ومظاهر العمران المختلفة، وهذا التطور من شأنه أن يحدث تطورا مشابها في
[ ص: 116 ] العلاقات والنظم الاجتماعية المميزة لسكان المدن، أما المناطق البدوية فهي تتطور، في رأيه، ببطء شديد، وتتسم الظواهر الاجتماعية السائدة فيها بطابع الثبات والاستقرار النسبيين
>[1] .
إنه على الرغم من تزايد عدد السكان في المدن بعد توسعها، وكان المتوقع أن تزيد العلاقات وتتشابك إثر تزايد عدد السكان، إلا أن الدراسات أثبتت أن نسبة العلاقة الاجتماعية بين السكان لا تزيد بكثرة عددهم وإنما تعتمد على الزيادة في نسبة تقابلهم، إن سكان المباني العالية ذات الأدوار المتعددة، وهو ما يكثر في المدن نتيجة للتوسع، قد يجدون صعوبة في تكوين علاقات مع الجيران، أو قد تكون هذه العلاقة ذات عمر قصير، شكلا ومضمونا، فهذه العلاقات تنمو عند الالتقاء في المدخل أو المصعد أو مواقف السيارات.. «وقد دلت الدراسات على أن جيرة المداخل الخارجية في المساكن المنفردة الأفقية تزيد من فرص التعارف أكثر من جيرة المداخل الداخلية في المباني العالية، فتظهر إحدى الدراسات أن (20%) من سكان المباني العالية لا توجد لهم أية علاقة مع الجيران من سكان الدور نفسه الذي يسكنون فيه، و (30%) منهم لا يوجد لهم علاقة مع الجيران في العمارة نفسها في أدوار أخرى، ولاشك أن المباني متعددة الأدوار التي حتمتها ظاهرة التوسع في المدن للتغلب على مشكلة الإسكان في المدن بعد توسعها قد أدت
[ ص: 117 ] إلى قلة العلاقات وتقطعها بين السكان الناس في المدينة على الرغم من وجودهم في مبنى واحد»
>[2] . وفي المدينة الخليجية تظهر إحدى الدراسات الميدانية أنه في الأحياء التي تكثر فيها الفلل أو العمائر المتعددة الشقق والتي يتردد عليها نزلاء كثر وبشكل سريع غالبا ما تكون تلك العلاقات رسمية وفاترة، بخلاف طبيعة العلاقات في الحي الشعبي أو أحياء وسط المدينة التقليدية
>[3] .
ولقد تصاحب مع ذلك سبب آخر يمثل حجر الزاوية في جعل أفراد المجتمع يلتقون مع بعضهم بعضا وبعد ذلك تعارفهم وتقاربهم ألا وهو الممارسات الترويحية لأفراد المجتمع، فمن المعلوم أن الغالبية العظمى من الممارسات الترويحية تتم بشكل جماعي، وهذه من خصائص الممارسات الترويحية في المجتمعات الخليجية قبل التوسع في المدن والانتقال إليها، إلا أن الأمر تبدل في مجتمع المدينة حيث حدث تغير في نمط الترويح، فتحول جزء كبير منه إلى الفردية أكثر منه إلى الجماعية، وليس ذلك عائد إلى طبيعة الممارسة الترويحية ذاتها وإنما إلى البيئة الترويحية، فلم يعد ثمة مكان للترويح في الأحياء كما كان الوضع سابقا، حيث هذه العمارات الشاهقة لا تتيح
[ ص: 118 ] ثمة فسحات مكانية لالتقاء أطفال الحي الواحد أو نسائهم، بل ما يغلب عليهم نتيجة انعدام البيئة المكانية هو الانعزال في السكن الفردي واستجلاب ممارسات ترويحية تتناسب والمكان، وغالبا ما تكون هذه الممارسات ذات طابع فردي، وهذا العملية غير المقصودة في الممارسة الترويحية أنتجت عزلة للفرد وبعدا عمن حولها دونما شعور منه، وهذا يكثر في المدن ذات العمائر متعددة الطوابق أو الشاهقة وهو ما تتجه له الآن الكثير من المدن الخليجية.
والحديث السابق يقودنا إلى الحديث بشكل عام عن التفكك الأسري الناتج عن هذا التحضر أو التوسع في المدن، وهو ما يمكن تقسيمه إلى أنواع ثلاثة، فهناك تفكك ظـاهري للأسـرة وهو فقـدان أحد الوالدين بوفاة أو سجن أو طلاق فيتصدع البناء الأسري، وقد يعوض بشكل أو بآخر من خلال أحد الوالدين أو الأقارب أو غيرهما، وهناك تفكك باطني وظاهري للأسرة وهو تفكك يحدث نتيجة لوفاة أو سجن أو طلاق أحد الوالدين فيتصدع البناء الأسري ولا يوجد من يعوضه، وهناك التفكك الباطني وهو «عملية نشطة متدرجة الفاعلية بحيث تصبح أعراضه مع مرور الزمن مزمنة.. فعلى الرغم من وجود أطراف الأسرة واكتمالها الظاهر فإنها غير مترابطة الأطراف.. بسبب انشغال كل من الزوجين عن الأولاد بأموره الذاتية.. ويمكن إلحاق الأسرة التي يرتبك نظامها وتضعف روابطها بسبب اشتغال الزوجة بالعمل خارج البيت بشكل يجعلها كثيرة التغيب عن المنـزل بهذا
[ ص: 119 ] النوع من الأسرة المتكاملة ظاهرا المفككة باطنا»
>[4] ، ولعل ما ينطبق على الوضع الأسري في المدينة هو التفكك الباطني، فالأسرة في ظاهرها مكتملة، فالوالدان موجودان، والأبناء يعيشون في كنفهم ولكن انشغالات الوالدين تجعل التفكك باطنيا وغير مرئي إلا من خلال آثاره البعيدة ونتائجه الاجتماعية والنفسية العميقة على أفراد الأسرة، وبخاصة الأطفال.
أما بالنسبة لكبار السن فإن الأمر أشد صعوبة، حيث يؤدي التوسع في العمران الرأسي إلى ابتعادهم عن الأماكن العامة لصعوبة الوصول إليها وبالتالي ابتعادهم عن أقرانهم وتقليل فرص الالتقاء بهم إلى أقصى درجاته، وهذا يظهر مشكلة نتجت بشكل مباشر مع توسع المدن، ولا يقتصر الأمر على المسن ذاته وتدهور صحته النفسية والاجتماعية نتيجة لهذه العزلة بل يمتد الأمر إلى أسرته ومشاكل اجتماعية أخرى لعدم القدرة على تفهم احتياجات المسن النفسية والاجتماعية، وبالتالي قد يؤدي الأمر إلى مشكلات في محيط الأسرة الواحدة، إضافة إلى أن عدم تواصل المسن مع المجتمع يؤدي إلى مشكلة اجتماعية أخرى وهي فقدان قيمة احترام كبير السن في المجتمع وعدم وجود نقاط احتكاك بين الأجيال بشكل يضمن استفادة كل جيل من الجيل الآخر بما يؤدي إلى تراكم الخبرة في المجتمع وانتقالها من جيل إلى جيل آخر.
[ ص: 120 ] إن مما يؤكد قلق المختصين من هذه الانعزالية في طبيعة مساكن المدينة الكبيرة والواسعة جغرافيا أن الناس أصبحوا من كثرة تأقلمهم على هذه الحياة المنغلقة داخل مساكنهم يجدون صعوبة كبيرة في العيش وممارسة الحياة خارجها، ففي إحدى الدراسات الاجتماعية وجد أن «الناس المنغلقين على أنفسهم في المساكن نفوسهم منكسرة وغير قادرين على النظر إلى الناس، ونتيجة لطول فترة بقائهم داخل مساكنهم أصبحت مشاكل العالم الخارجي أقل إلحاحا عليهم من المسائل البسيطة التي يقابلونها داخل مساكنهم؛ وفي دراسة أخرى تم إجراؤها على فتيات فرض عليهن البقاء في الوحدة السكنية فترات طويلة معزولين عن المجتمع الخارجي تبين أن اختلالا حدث في مقدرتهن على التفكير في المستقبل والقيام بأنشطتهن اليومية، وأصبحن يتقبلن الحكم والسيطرة من المسؤولين عنهن»
>[5] .
كما أن هناك سببا آخر لفقدان العلاقات الاجتماعية بين الناس، إثر التوسع في المدن، وهو عدم الاحتياج إلى بعضهم بعضا، ففي السابق كانت الأدوات والمستلزمات قليلة على مستوى الحي الواحد مما يوجد حاجة للتواصل للاستفادة من بعض ما لا يوجد إلا عند الفرد الآخر، فحاجة بعضهم إلى بعض أوجدت نوعا من التواصل وفرضته بشكل غير مباشر، كما أن عدم الاستقرار في المنـزل من قبل الكثير من الساكنين بسبب صعوبة التملك أوجد مثل هذا الضعف في التواصل بين السكان بشكل عام،
[ ص: 121 ] فالمستأجر يشعر أن وجوده في المنطقة مؤقت لذا قد لا يرى ضرورة لتكوين علاقات مع الجيران؛ لأنه يرى أنه سوف يرحل إن قريبا أم بعد مدة لن تطول لكي يستقر في منـزل مملوك له، فعلى سبيل المثال أكد أحد التقارير السكنية عن مدينة الرياض أن (52%) من سكانها في مبان مسـتأجرة، كما أظهر التقرير أن متوسط إقامة الأسرة بالمسكن بصفة إجمالية يبلغ (12) سنة، كما يشير التقرير إلى أن هناك حراكا سكانيا كبيرا، ويرجع سبب الانتقال إلى تملك الأسرة لمنـزل ملك
>[6] . ولا شك أن قصر مدة بقاء الأسرة في المنـزل مدعاة إلى عدم التواصل الكبير مع من حولها، وبخاصة في ظل الانشغالات المتوقعة في حياة المدينة لجميع أفراد الأسرة.
وعلى كل حال لا يمكن أن نغفل أهمية استشعار حق الجار، الذي حث عليه الدين الإسلامي، وضرورة التواصل معه، وأن ذلك من مكارم الأخلاق ومن مبادئ ديننا الحنيف حيث أكد الله عز وجل ذلك في قوله:
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) (النساء:36) ، كما أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم حق الجار، ومن ذلك ما روته أم المؤمنين السيدة
[ ص: 122 ] عائشة، رضي الله عنها، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) >[7] ، وفي ظل وجود هذه القيم الإيمانية واستشعارها بين سكان الحي الواحد في المدينة حتى وإن كانت كبيرة سيؤدي ذلك إلى المزيد من التواصل والتلاحم والقرب الاجتماعي، وذلك بدافع الحث الإيماني والرغبة في الامتثال النابعة من روح التدين العام التي يتصف بها المجتمع الخليجي عموما.
وختاما لكل ما سبق، فإن فقدان التواصل الذي نتج عن توسع المدن الخليجية، يستلزم إيجاد بيئات وظروف تهيئ الالتقاء بين أفراد المدينة الواحد، ولاشك أن هناك العديد من الخطوات العملية لتحقيق ذلك التقارب المنشود بين أفراد المجتمع الواحد في ظل توسع المدينة وهي مشاريع اجتماعية مقترحة سيتم تناولها في الجزء التالي من الدراسة.
[ ص: 123 ]