المقدمة
لا يختلف عاقلان على أن أمة المسلمين في هذا العصر تعاني من تخلف حضاري شمل نواحي حياتها كلها، لدرجة أنه لم تنج زاوية من زوايا مجتمعات المسلمين من صورة ما من صور التخلف، مع اختلاف النسب والمقادير بالتأكيد، بين المجالات والمجتمعات.
وعندما ندرس خارطة التخلف، سنجد أن تضاريسه مليئة بكثير من الغرائب، منها ما هو مرتبط بغياب أو ضعف منظومة (الموضوعية) بجانبيها الفكري والنفسي، حيث يلاحظ تمحور كثير من المسلمين حول الأشخاص لا حول الأفكار، وبروز التطرف في حالتي الحب والكره، وادعاء احتكار الحقيقة المطلقة مع غياب آداب الحوار، وبروز لغة الاتهام وحضور نظريات التفسير التآمري بقوة، وادعاء المعرفة بكل شيء والجرأة الشديدة في إطلاق الفتاوى في كافة مجالات الحياة، وبروز الاتهام للآخر وغياب النقد الذاتي [ ص: 39 ] وضعف ثقافة المراجعة، وعدم احترام التخصصات الفردية والجماعية حيث الحرص على الانغلاق على الذات وعدم الاستفادة من خبرات المجتمعات الأخرى، والخلط بين التفاعل الحضاري والغزو الثقافي، والميل إلى التعميم في إطلاق الأحكام.
ويزداد الفقر في ثقافة (الموضوعية) أكثر في أوساط العرب، إذ أن بعض القيم والمفردات غير الموضوعية كانت ذات حضور كثيف في العقل العربي قبل الإسلام.
إلا أن الإسـلام ولما يمتلكه من قوة ذاتية بصورة عامة، مع حضور باهر في مجال قيم الموضوعية فكرا وخلقا، فقد تخلقت الأجيال الأولى بأخلاق الموضوعية، وعرفت بالانحياز إلى القيم المعلية للعقل والتخصص العلمي والاعتدال في عواطف الحب والكره، وعـدم ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، مع احترام (الآخر) ومحاورته بالتي هي أحسن، وتغليب مفردات النقد الذاتي والتواضع وامتلاك شجاعة الاعتراف بالجهل، وإعلاء شأن التخصصات العلمية، والانطلاق في المواقف والأحكام من قاعدة النسبية بعيدا عن التعميم.
وعندما خف تأثير الإسلام خفت تأثير هذه القيم لدرجة كادت أن تجعل غياب الموضوعية أحد مكونات الشخصية المعاصرة، وخاصة ما يرتبط ببروز العواطف والانفعالات على حساب العقول والفاعليات، وطغيان [ ص: 40 ] الشخصانية على حساب الأفكار، وتقدم قيم التعالم والإطلاق والانغلاق واتهام الآخر، على حساب قيم التواضع العلمي ونقد الذات والنسبية والانفتاح على الآخرين والاعتراف بإيجابياتهم والاستفادة منها.
ولما كانت أمة المسلمين بحاجة إلى جهود الجميع في محاولة تقطيع جواذب التخلف وتجفيف منابعه، من أجل مساعدتها على معاودة الإقلاع الحضاري، وبما أن المعترك الفكري هو المبتدأ، فقد حاولت المساهمة بجهد المقل في هذا الموضوع الخطير.
وما دمنا قد أشرنا إلى شيء من خصائص العقل العربي قبل الإسلام في هذه المقدمة، فإننا نذكر بما توصل إليه كثير من علماء المسلمين بل وبعض علماء الغرب حول أن العربي لا يمكن أن يسير في مدارج التقدم ويمتطي معارج النهوض الحضاري ما لم يكن الدين محركه الرئيس.
ولهـذا قمت بجمـع الأسـس التي أرى أنـها تمثل روافع ودوافع المنظومة الموضوعية، وتأصيـلها من خلال الشرع الإسلامي، بالعودة الكثيفة إلى آيات القرآن الكريـم وأحاديث الرسـول صلى الله عليه وسلم ، مع الإشـارة إلى بعض تطبيقات وأقوال سـلف الأمة الكبار، ومن ينتمي إلى مدارسهم في هذا الزمان.
أكثرت من إيراد الشواهد الإسلامية حتى تكتسب هذه القضية مشروعيتها الدينية في أذهان كثير من المسلمين الذين خرجت مثل هذه [ ص: 41 ] القضية عن دائرة العبودية لله في فكر وفعل أكثرهم، لكن طبيعة هذه السلسلة من الكتب حتمت علي الاختصار في الشرح قدر الإمكان، مع الركون إلى نباهة القراء، لعلمي أن هذه السلسلة تستقطب في العادة أفضل عقول الأمة، أو هكذا نحسبهم.
نسـأل الله تعالى أن نكـون قد قدمنـا شيئا ذا بال يساهم ولو بشق تمرة في توفير الزاد الفكري لهـذه الأمـة التي عادت إلى مربع الأمية من باب الفكر (الأمية الفكرية) على الأقل. أرجو من الله أن يمنحني أجري المصيـب أو أجر المخطئ في كل الأحوال، وأن يرزقني سداد العقل وإخلاص القلب. [ ص: 42 ]
التالي
السابق