3- الاتباع للأفكار لا الأشخاص:
من يقرأ آيات القرآن التي ترد فيها مفردة "الاتباع" فسيجد أن الاتباع يكون دائما للفكرة لا للشخص، وهذه نماذج من تلك الآيات:
( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ) (يس:11 )،
( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) (يوسف:38) ،
( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) (الجاثية:18)،
( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) (الأعراف:157).
وأستطيـع الجزم بأنه لا توجـد آية تتحدث عن اتباع المؤمن إلا لنبي أو رسول أو لفكرة، وإذا وردت إشارة إلى اتباع أشخاص، فإن هذا الاتباع يكون منضبطا بالفكرة، مثل قوله تعالى:
( والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) (التوبة: 100)،
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) (الطور:21) ،
( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ) (الكهف:66).
وفي ذات المربع ندد القرآن في عشرات المواضع بالاتباع الأعمى للأهواء، وللآباء، وللظلمة والجبابرة
>[1] .
[ ص: 50 ]
ويمكن اعتبار الآية المركزية للموضوعية التي يدرسها هذا البحث، قوله تعالى:
( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) (الزمر:18). فالمسلم في تفاعله مع الآخرين، ينظر إلى القول "الموضوع" دون القائل "الشخص"، بمعنى أن كل قول ينبغي أن يخضع للفكر والمراجعة والتمحيص دون اعتبار لقائله، ولذلك قال القرآن "يستمعون" لا "يسمعون" وزيادة المبنى تفيد زيادة المعنى، بمعنى أن الموضوعية تقتضي عدم النظر إلى القائل حتى يتم التحرر من الذاتية، وتقتضي إعمال العقل بعمق وليس إعمال السمع فقط، مع ضرورة التحلي بآداب السمع وآداب الحوار الذي لابد أن يتبع عملية (الاستماع)!
ومن المعلوم أن إحدى محطات الانحراف عند أهل الكتاب هي تمحورهم حول الأشخاص أكثر من الأفكار، ولذلك انحرفوا عند انحراف علمائهم حتى أنهم شرعوا لهم ما لم يأذن به الله وما لا يتفق مع الرسالة، التي جاء بها موسى وعيسى وغيرهما، وقد سجل القرآن هذا الانحراف الخطير في قوله تعالى:
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة:31) ، ولو دار بنو إسرائيل مع الفكرة لرفضوا تحريم الحلال وتحليل الحرام، لكن حضور الشخصانية في مقابل غياب الموضوعية قادهم إلى هذا المأزق العقدي الكبير!
[ ص: 51 ]