4- البراءة من أعمال المخالف لا من شخصه:
لا شك أن عقيدة الإسلام تتضمن الولاء والبراء، والحب والكره، لكن هذه المشاعر والمواقف تتجه إلى الأعمال لا إلى الأشخاص. وهذا ما أثبته القرآن الكريم. فقد علم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم قائلا
( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ) (الشعراء:216)، فهو صلى الله عليه وسلم لا يبرأ من أشخاصهم وإنما من أعمالهم، ومثل هذه الآية قوله تعالى:
( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) (يونس:41)، وقوله تعالى:
( قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ) (الأنعام:19).
وعندما يرتكب المخالف ذنبا فإن الإسلام لا يجيز تعييره بهذا الذنب، بل نعت الله المؤمنين بأنهم لا يصفون المخالف بما اقترف من ذنب، قال تعالى:
( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) (القصص:55) ، فقد سمى الله اللغو المخالف للطاعة أعمالا!.
وعلى لسان لوط، عليه السلام، قال تعالى:
( قال إني لعملكم من القالين ) (الشعراء:168)، فهو يبغض أعمالهم المشينة المتمثلة بالكفر بالله والفساد الأخلاقي والشذوذ الجنسي، لكنه لا يكره أشخاصهم. وعندما أنزل الله تعالى العذاب على هؤلاء أشار القرآن إلى الأعمال لا إلى الأشخاص، فقال تعالى:
( ونجيناه من القرية التي كانت تعمل [ ص: 52 ] الخبائث ) (الأنبياء:74 )، وكان لوط قـد دعا الله قبـل ذلك فقال:
( رب نجني وأهلي مما يعملون ) (الشعراء:169).
وعندما يهاجم القرآن غير المسلمين، فإن هجومه ينصب على الأعمال لا على الأشخاص، مثل قوله تعالى:
( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) (المائدة:66) ،
( فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) (القصص:84).
ولأن السنة الصحيحة هي قبس من مشكاة القرآن فقد مضت في نفس الطريق، حيث البراءة من فعل المعصية لا من العاصي نفسه. ومما ورد في هذا السياق أن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، قتل أحد المقاتلين في بعض معـاركه، بعد أن نطـق الشـهادتين لما رأى سيف خالد يرتفع فوق رقبته، فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم خالدا عتابا مرا ثم قال صلى الله عليه وسلم :
( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) >[1] . وفي هذا السياق أمر القرآن بالتعامل مع الظاهر وعدم التشكيك بالنيات، قال تعالى:
( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) (النساء:94).
وعندما قال أبو ذر الغفاري لبلال، رضي الله عنهما: "يا ابن السوداء" غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال لأبي ذر:
( إنك امرؤ فيك [ ص: 53 ] جاهلية ) >[2] ولم يقل له إنه جاهلي، فاتجه نقد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثقافة التي دفعته إلى هذا الموقف وتلك العبارة!
وأخرج ابن عساكر عن أبي قلابة أن أبا الدرداء رضي الله عنه مر على رجل قد أصاب ذنبا، فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم! قالوا: أفلا نبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبا فلا تكونوا أعوانا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم اخزه، اللهم العنه! ولكن سلوا الله العافية، فإنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كنا لا نقول في أحد شيئا حتى نعلم علام يموت، فإن ختم له بخـير علمنـا أنه قد أصاب خيرا، وإن ختم له بشر خفنا عليه
>[3] .
وقد كان هذا ديدن الصحابة الكرام جميعا، ففي غزوة أحد تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لمحاولة اغتيال، وأصيب بجروح في وجهه وفي رجليه وكسرت رباعيته، ثم أشيع بأنه صلى الله عليه وسلم قد قتل، ففر بعض المسلمين من مواقعهم وانتصر المشركون، ولما رأى الأنصاري أنس بن النضر، رضي الله عنه، فرار المسلمين
[ ص: 54 ] وهجوم المشركين عليهم قال رضي الله عنه : "اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء"، فهو قد اعتذر عن ترديد بعض المسلمين لإشاعة خبر مقتله صلى الله عليه وسلم وتقاعسهم عن القتال بسبب ذلك، وتبرأ مما فعل المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولم يتبرأ من أشخاصهم، رغم أنه قال هذه العبارة وهو في قمة الانفعال الناتج عن هزيمة المسلمين وخـبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يتضح أنه كان إشاعة إلا بعد استشهاد أنس بن النضر، حيث قام مقاتلا وهو يقول لإخوانه: "قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "!
وروي عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، أيضا قوله: "لا تبغض من أخيك المسلم إذا عصى إلا عمله، فإن تركه فهو أخوك"!
ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال". وهي حكمة تجسد موضوعية الصحابة، منطلقة من نور قوله تعالى:
( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) (الزمر:18).
ولأن الموضوعية بـهذه الدقـة المتناهية في التمحـور حول الأفكار لا الأشخاص، فإنها كثيرا ما ترد في القرآن تحت عنوان "الحق"، فالقرآن يستخدم تعبيره الخاص عن الموضوعية وهو الحق، فهو يدعو المؤمنين للإيمان بالحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق . وفي هذا السبيل يحرم القرآن كل صور الهوى والغرض والأنانية والذاتية كائنة ما كانت وفي كل المجالات
>[4] .
[ ص: 55 ]
وعندما بدأ يضعف اتصال المسلمين بالقرآن، بدأت صلتهم بالموضوعية تخف، فإن ضعف الاهتمام بالفكرة الإسلامية أبرز الشخصانية على أوسع نطاق، حتى تفرقت الأمة الواحدة التي شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها كالجسد الواحد، والتي كانت تدور حول فلك الإسلام "الفكرة"، لتتمزق إلى فرق وتتشظى إلى طوائف ومذاهب، غلب عليها التمحور حول أشخاص والتعصب لهم بالحق وبالباطل، ووصلت الشخصانية إلى حد أن الفرقة الواحدة تشظت إلى فرق وفقا للولاء الشخصي لهذا القائد أو ذاك، مثل فرقة الخوارج التي انقسمت إلى عشرين فرقة سميت بأسماء أصحابها
>[5] .
وكانت بداية الانقـسام مرتبطة بعدد من العوامل، وكانت الشخصانية إحداها.
[ ص: 56 ]