5- الاعتدال في حالتي الحب والكره:
لا شك أن كل إنسـان يمتلك عواطـف الحب والكره بين جوانحه، ولا شك أن للحب ما يبرره وللكره ما يبرره، ولكن لا شك أيضا أن الإسلام أوصانا، كما أسلفنا، بتوجيه الحب والكره إلى العمل وليس إلى الشخص، وكذلك أوصانا بضبط عواطف الحب والكره حتى لا تخرج عن نطاق المشروع والمعقول، بحيث لا يصل الحب إلى التقديس ولا يصل الكره إلى الرفض الكلي والقطيعة الكاملة.
قال تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) (النساء:135)؛ إذ أن المبالغة في الحب أو الكره تعمي بصيرة العقـل عن التفكير السوي والإدراك السليم واتخاذ القرارات والمواقف الصـائبة، وهـذا كله بحاجـة إلى تصـدي وقيام كثير ودائم
( كونوا قوامين بالقسط ) .
ولاتسام الصحابة العظام بالاعتدال في حبهـم وكرههم، فقد كانوا في أعلى ذرى الموضوعية والتفكير المنطقي السليم، مما كان له أكبر الأثر في التمكين الذي تحقق لهم في الأرض خلال برهة من الزمن.
[ ص: 70 ]
وعندما بدأ الناس يبتعدون عن المنهـج القرآنـي والطريقة الراشدية في التعامل مع القرآن فهما وتنـزيلا، تصدى لهذا الانحراف كبار الصحابة، سواء كانوا أمراء أم علماء.
عن زيد بن أسـلم عن أبيه قـال: قـال لي عمـر بن الخطاب رضي الله عنه : "يا أسـلم لا يكن حبـك كـلفا، ولا بغضـك تلفا"، قلت: وكيف ذلك؟ قـال: "إذا أحببـت فلا تكلف كما يكلف الصبـي بالشيء يحبـه، وإذا أبغضـت فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف صاحبك ويهلك"
>[1] .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما"
>[2] .
[ ص: 71 ]
ولما كان الحب والـكره مشـاعر يصعب قياسـها، فإن المقياس المادي والعملي هو أن لا يصل الحب إلى درجة عدم رؤية نواقص وأخطاء المحبوب، وأن لا يصـل الكره إلى حد إعماء البصر عن رؤية محاسن وإيجابيات المكروه، وكذلك أن لا يكون الحب عدسة تكبر حسنات من نحب وتصغر حسنات من نكره، أو عدسة تصغر أخطاء من نحب وتكبر أخطاء من نكره، بمعنى أن الموضـوعية تقتضي أن ينظر الشخص إلى من يحب ومن يكره بنفس المنظـار، كالمصـور الذي يصور المنظر الذي يحبه والمنـظر الذي يكرهـه بنفس العدسـة، بحيث تخرج الصورة كما هي هنا وهناك.
ومن يقرأ كتب التراث الإسلامي المتأخرة، وخاصة كتب السير والتراجم يرى من المبالغات ما لا يتصوره عاقل ولا يتقبله منطق، سواء في الحكايات العجيبة التي تنسب لمن يحبه أصحاب الكلام، بحيث أن بعض العلماء والأئمة ارتفع بهم محبوهم عن البشرية إلى الملائكية، وفي الشق الآخر، ينسب أحيانا لنفس هؤلاء الأشخاص من قبل من يكرهونهم حكايات تنحط بهم عن درجات البشرية إلى البهائمية أو الشيطانية!
هذا حدث من المتعصبين مع وضد، والذين لم يطلعوا على أدبيات هذا الدين ولم يتدبروا القرآن أو يفقهوا السنة النبوية فكانوا مثالا للإفراط الشديد في الحب والكره، في المدح والقدح، مما يؤكد الضرورة القصوى لضبط وتنظيم عواطف الحب والكره.
[ ص: 72 ]
إن هذا الضبط للعواطف من السبل الموصلة إلى التحقق بالموضوعية والتفكير المستقيم.
ومن تنظيـم وضبـط عواطف الكره والرفـض: النـظر إلى الذنب لا إلى المـذنب، وكـف التجـاوز ضـد الشخـص المـكروه، مهما كان المـبرر، بحيث لا يتـم تجاوز الحـق أو العـدل، فلا اعتداء أو ظلم أو جـور أو إسفاف أو سـب أو افتراء، وأن يبقـى رد الفعـل محكوما بحدود الشرع
>[3] .
و "لعل ما يجمـع عواطـف القبول كلها هـو الحب، فالحرمة والعطف والود والتسامح وما إليها إنما تصدر عن محبة لا عن كراهية، والحب عاطفـة إنسـانية متميزة، تحيل قلب المحب خلقا آخر، أكثر طواعية وتقبلا واستجابة لمن يحب، وتملأ النفس البشرية بمشاعر حساسة، حيث ترق حواشـيها ويلين قاسـيها، ويندى جفافها، وتصبح سلسة القياد، وضيئة الخلق، رقيقة الطبع، كريمـة السـلوك، لذلك نجد الرسـول الكريـم يوجهها إلى مسـتحقيها فعلا، بما يضبط موضوعيتها، ويعزز الاتجـاه الإيمـاني للمسـلم"
>[4] .
[ ص: 73 ]
ولاتسام أكثر العامة بالإفراط في المدح أو القدح، لم يكن أكثر علماء السلف يفرحون بمن مدح ولا يغضبون ممن قـدح، وهذا التطرف لا يأتي إلا بسبب البعـد عن الموضوعية، والـدوران مع الشخصانية، سواء في حالة الحب أو في حالة الكره. أما عندما يتمحور الإنسان مع غيره بموجب ما يحمل من أفكار وقيم، فإنه سيعرف طريقه إلى الاعتدال والوسطية، ومن ثم الموضوعية والإنصاف؛ لأنه لا يوجد من يحمل الخير الخالص أو الشر المحض، ولا يمكن أن يمتـلك أي إنسـان مهما كان الحقيقة المطلقـة، وهذا ما سنحاول التعرف عليه في الأساس الثالث.
[ ص: 74 ]