5- تذويب السيئات في بحر الحسنات:
يعترف الإسلام بضعف الإنسان وقصوره ونسيانه، فهو يحمل في تكوينه الفطري استعدادات الفجور بجانب ملكات التقوى:
( فألهمها فجورها وتقواها ) (الشمس:8) ، ولا يخبو هذا الفجور إلا بتكثيف عمليات التزكية:
( قد أفلح من زكاها *
وقد خاب من دساها ) (الشمس:9-10) ، لكن هذه التزكية لا تخرج هذا الإنسـان عن طبيعته بحيث يصبح ملاكا معصوما، فلابد أن يخطئ، غير أن التزكية كلما زادت نقصت الأخطاء، وبالطبـع أن أخطـاء الأبرار تكون غالبا من الصغائر، غير أن الواقع العملي يقول: إن بعض الأبرار قد يقعـون في الكبائر، فهل ننسـف كل ما فعلوه وقدموه؟!
إن الإسلام وهو دين الموضوعية والعدل والإنصاف لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن ثم فإن هذه الأخطاء القليلة يذيبها الإسلام في محيط الصواب الضخم الذي قدمه هؤلاء الأبرار، وهذه مجرد أمثلة:
-
( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) (النور:22)، فرغم مشاركة هؤلاء في إشاعة خبر الإفك في السيدة عائشة، رضي الله عنها، إلا أن الله ذكرهم ضمن المهاجرين في سبيل الله، وحث على الإحسان إليهم، مراعاة لسوابقهم التي قدموها.
[ ص: 98 ]
- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب؛ فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشـركين من أهل مكة، يخبـرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب، ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجـل علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عنـدهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد صدقكم"، قال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) >[1] .
يقول ابن القيم: "إن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية، كمـا وقع الجس من حـاطب مكفرا بشهوده بدرا، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمـة من المصلحة، وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها، وفرحه بها، ومباهاته للملائكة بفاعلها، أعظم مما اشتملت
[ ص: 99 ] عليه سيئة الجس من المفسدة، وتضمنته من بغض الله لها، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله، وأبطل مقتضاه.."
>[2] .
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
( مر أبو بكر والعباس، رضي الله عنهما، بمجلـس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؛ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا؛ فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ) >[3] .
وهكذا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه مرة أخرى أن الماء إذا كثر لم ينجس بالنجاسة القليلة، فإن بحر إحسان الأنصار يذيب أي إساءة يمكن أن تصدر من قبل بعضهم، ومن هنا ربما جاء سـكوت أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فيما بعد على سعد بن عبادة، رضي الله عنه، الذي لم يبايع الصديق على الخلافة، رغم أن عدم مبايعة هذا القائد الأنصاري يمكن أن تكون بؤرة لفتنة قد تمزق شمل الأمة، مثلما حدث بعد ذلك عندما رفض معاوية مبايعة علي، رضي الله عنهما!
[ ص: 100 ]
- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
( أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهـم العنـه، ما أكثر ما يؤتى بـه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله ) >[4] . وبهذا المنهج الإعذاري من المصطفى صلى الله عليه وسلم ذاب ملح "شرب الخمر"، وهو كبيرة، في مياه حب الله ورسوله!. لقد كان صلى الله عليه وسلم يلفت أنظار الصحابة دوما إلى النصف الممتلئ من الكأس، فكيف إذا كان الكأس لم ينقص إلا اليسير منه؟!
- أثناء حروب الردة روي أن خالد بن الوليد سمع، رضي الله عنه، من مالك بن نويرة كلاما فهم منه أنه قد ارتد عن الإسلام، فقتله خالد رغم إنكاره الردة، وتزوج بامرأته أم متمم، فبلغ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الخبر، فقال لأبي بكر، رضي الله عنه: إنه قـد زنى فارجمـه، فقـال أبو بكر، رضي الله عنه: ما كنت لأرجمه، تأول فأخطأ، قال: فإنه قد قتل مسـلما فاقتـله، قال: ما كنت لأقتـله، تأول فأخطأ. قال: فاعزله، قال: ما كنت لأشيم (أغمد) سيفا سله الله عليهم أبدا"
>[5] .
وكان قد حدث من خالد بن الوليد، رضي الله عنه، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قريب من هذا الخطأ
>[6] بسبب قلة فقهه، لكنه كان قائدا عظيما ومجاهدا
[ ص: 101 ] مغوارا، وصاحب مواهب عسكرية لا تبارى، ولابد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راعى هذا كله عندما أبقاه على القيـادة بعد ذلك الخطأ، ومثله فعل أبو بكر، رضي الله عنه.
- أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب، رضي الله عنه، قال:
( شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمان بن عفان، فقال: يا رسول الله، علي ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسـول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر وهـو يقول: "ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه ) >[7] . فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن عثمان بهذا الصنيع قد أوجد لنفسه بحيرة من الحسنات في هـذا الموقف فقط، وبالتالي فإن ما يمكن أن يصدر عنه من صغائر واجتهادات خاطئة ستضيع في هذه البحيرة من الحسنات، مثـلما ذابت كبيرة التجسس التي قام بـها حاطب، رضي الله عنه، في بحيرة ما قدمه يوم بدر من جهاد وتضحية ومخاطرة بالنفس والنفيس.
[ ص: 102 ]
وقد ثبت بالفعل أن عثمان، رضي الله عنه، عندما خرج عليه الثوار في أواخر خلافته كان قد ذكرهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حقه يوم العسرة، بمعنى أنه حتى لو كانت مآخذهم عليه حقيقية فينبغي أن تشفع له تلك السوابق، التي أوردها في محاججته لهم، لكن أولئك الثوار كانوا من الرعاع، إضافة إلى أفراد ممن أوقدوا نار الفتنة!
والناظر في تاريخ علماء المسلمين سيجد أن لبعضهم زلات وهفوات، لكنها تضيع في بحار حسناتهم، يقول ابن القيم: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين"
>[8] .
وورد في كتب الصحاح أن ذا الخويصرة التميمي احتج على قسمة الرسول صلى الله عليه وسلم للغنائم، واتهمـه بأنه لم يعدل ولم يرد بهذه القسمة وجه الله، ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يتبعه ويضرب عنقه، نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم محتجا بأن ذلك الخارجي "ذو الخويصرة" يصلي
>[9] . وهو نفس ما فعله علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مع الخوارج الذين انسلوا من هذا الأصل! وهذا ينقلنا إلى مفردة جديدة وهي عدم غمط المسيئين ما لهم من حسنات.
[ ص: 103 ]