3- مفكرو المسلمين والنقد الذاتي:
لقد مرت أمة المسلمين بمراحل قوة وضعف، وكانت قيمة النقد الذاتي ذات صلة بمراحل المد والجزر، فقد كانت هذه القيمة حاضرة بقوة في المجتمع القوي، وكانت باهتة أو غائبة في مراحل الضعف والوهن، إذ من شأن المجتمعات الضعيفة أن تركب المركب الذلول، وهو هنا "المنهج التبريري" الذي يلقي بالتبعة على عوامل كثيرة جدا، وقد تصل إلى حد التناقض أحيانا، لكنها تنحو جميعا منحى الاتجاه الخارجي، فهو وراء كل مؤامرة، وسبب كل هزيمـة، وهو الشـيطان الذي يمتلك قدرات خارقة، وما أفراد الداخل إلا "أحجار على رقعـة الشـطرنج" يحركها الآخرون كيفما شاءوا من وراء الحدود وربما من وراء البحار!
وفي كل العصـور لـم تخـل أمة المسلمين من مفكرين جهابذة، ومجددين عظاما، رفعوا لـواء الأمـة، وحملوا بوصلة الفكر، ومن ثـم فإن النقد الذاتي كان أحد معالم تقـدم الأمة وقوتها في فكر معظم علماء الإسلام العاملين.
أ- من العلماء القدامى:
سنعرض في هذا المقام لإشارات بسيطة من فكر علمين من أعلام الأمة الكبار في العصور الوسيطة، حيث كانت عوامل التخلف قد أنشبت أظفارها في جسم الأمة، أفرادا وجماعات، وهما عبد الرحمن بن الجوزي
[ ص: 144 ] (ت/597هـ)، وابن قيم الجـوزية (ت/751هـ)، والعلمان كلاهما ينتميان إلى المذهب الحنبـلي، الذي يتهـم بأنه أقل المذاهب عقلانية ومرونة وموضوعية.
- ابن الجوزي:
مارس عبد الرحمن بن الجوزي صورا من النقد الذاتي لنفسه، بصورة معلنة، وسجلها في بعض كتبه، حاثا الجميع على الاعتبار بأنفسهم والاستفادة من تجاربهم والالتفات إلى أخطائهم بدلا من تصيد أخطاء الآخرين وترقب عثراتهم
>[1] .
ودعا إلى النظر العقلي في تتابع العثرات المعنوية، مثلما يلتفت الإنسان عندما يتعثر وهو يسير في الطريق لما تسبب في تعثره. ومارس في كثير من كتبه نقدا شاملا وصارما وموضوعيا لصور من (التدين المنقوص) أحيانا و (التدين المغشوش) أحيانا أخرى، وخاصة في كتابيه "صيد الخاطر" و "تلبيس إبليس"
>[2] .
وقد شرح في هذين الكتابين "علل التدين" في عصره، بأسلوب يشبه تماما ما فعله الشيخ محمد الغزالي في هذا العصر، لدرجة أن من يعرف أسلوب الشيخ الغزالي، إذا قرأ كتاب "صيد الخاطر" لابن الجوزي، وقيل
[ ص: 145 ] له: لأي من أعلام هذا العصر ينتمي هذا الكتاب؟ فإنه سينسبه للشيخ الغزالي، رحمه الله.
وسأكتفي بمثال واحد، فمن يقرأ كتب ابن الجوزي يلاحظ أنه يحمل تقديرا بالغا لعلماء المسلمين، لكنه يعتبر أن أعظم علماء الإسلام على الإطلاق ثلاثة: الحسن البصري وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري، حيث وسم هؤلاء بأنهم أكثر من جمعوا بين العلم والعمل، ومن شدة إعجابه بالإمام أحمد بن حنبل وتقديره له، فقد ألف فيه كتابا كما ألف في العلمين الآخرين، لكن زيادة تقديره للإمام أحمد جعلته ينتمي إلى المذهب الحنبلي، رغم أنه امتلك من العلم ما أهله للاجتهاد المطلق.
ومع هذا كله، فقد انتقد الإمام أحمد في بعض القضايا، وخالفه في بعض المسائل، بل وتتبع كتابه "المسند"، مستخرجا منه عشرات الأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكانت هذه الأحاديث من الكثرة بمكان، بحيث شغب عليه بعض العلماء الحنابلة في عصره، فسجل اعتراضهم، ورثى لحالهم، معتبرا أنهم يحملون بهذا الاعتراض عقول العوام؛ لأنه لا قداسة لعالم أو كتاب بشري، ولأنه بانتقاده ذاك انتصر لمنهج أحمد بن حنبل، وإن كان قد خالفه في بعض اجتهاداته
>[3] .
[ ص: 146 ]
وجاء بعد نحو ثلاثة قرون من موت ابن الجوزي أحد أكبر علماء المذهب الشافعي وهو الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت/852هـ) ليؤلف كتابا كاملا في الدفاع عن مسند ابن حنبل أمام الانتقادات التي أثارها العالم الحنبلي ابن الجوزي في كتاب إمام مذهبه "المسند"، وهو كتاب "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد".
وجـاء بعد هـؤلاء من انحـاز إلى ابن الجوزي أو إلى ابن حنبل في هذا الشـأن من عـلماء كل المذاهب، ومهما يكن الأمر فإن ما نود الإشارة إليه هنا هو إعلاء علماء المسـلمين للنقد، انحيازا إلى الفكرة ولو على حساب الشخص أو المذهب أو الطائفة، هذا بالنسـبة للأعـلام الكبار، أما أنصاف العلماء، فقد صار أكثرهم مدادا دافقا لأنهار من التعصب الآسن، وصلت إلى حد الاقتتال الدموي بين أتباع أقرب مذهبي السنة إلى بعضهما.
- ابن قيم الجوزية:
سطر ابن القيم في كثير من كتبه فصولا وأبوابا ومباحث كاملة في موضوعات وقضايا ذات صلة وثيقة بما نسميه في هذا العصر النقد الذاتي، حيث اهتم اهتماما بليغا بمراقبة النفس ومحاسبتها وتزكيتها، كمحك أساس في كسب معركة الاستخلاف والعبادة في هذه الأرض، ففي كتابه "إغاثة
[ ص: 147 ] اللهفان" مثلا نقرأ العنوان التالي: "فصل في محاسبة النفس عدة مصالح"
>[4] .
وفي ذات الكتاب أورد العناوين التالية "فصل في اللوامة"، و "فصل في محاسبة النفس"، نافيا سـلطان الشـيطان على الإنسان
>[5] ، وهو المبرر الذي يطـلقه دائما المنحرفون، وهـو المشـجب الذي يعلق عليه الخاطئون أخطاءهم!
وفي كتابه "طريق الهجرتين" أوضح كيف كان الأنبياء يتهمون أنفسـهم وهم المعصـومون عن الكبائر
>[6] ، وفي كتابه "الفوائد" أورد قصة معصـية آدم، وكيف عفا الله عنه، عندما أقر واعترف بذنبه، مستغفرا منه
>[7] .
ومارس نقد التدين المنقوص كسلفه ابن الجوزي، مبينا مدخل الشيطان، وكيفية التحصن منه في كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان". وحاول إيجاد منهج كامل للخروج من علل التدين، وذلك في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ببيان المنهج النبوي الراشدي في التعامل مع القرآن وتنـزيله على الوقائع والأحداث، وحدود العلاقة المثلى
[ ص: 148 ] بين النقل والعقل، بين الدنيوي والأخروي، بين الاتباع والابتداع، إلى غيرها من الثنائيات التي كان اللبس فيها من أهم منابع الضخ لظاهرة التدين المنقوص، فضلا عن الانحراف الذي عرف عن بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام.
وفـي كتابه "الجواب الكافي" أورد ابن القيم روايات وآثارا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطـاب، وأبي بن كعب، وعمر بن عبد العزيز، وابن عمر، والحسن، رضي الله عنهم، تدل على أن الحوادث العظيمة كالزلازل والفتن لا تأتي إلا بسبب ذنوب، وعليه فإن مثل هذه المناسبات ينبغي أن تكون مواسم للمراجعة والتوبة والاستغفار، وسنورد هنا ما نقله عن عمر ابن عبد العزيز، فقد كتب إلى الأمصار: "أما بعد، فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله عز وجل به العباد، وقد كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا في يوم كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق به، فإن الله يقول:
( قد أفلح من تزكى *
وذكر اسم ربه فصلى ) (الأعلى:14-15 )، وقولوا كما قال آدم:
( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (الأعراف:23)، وقولوا كما قال نوح:
( وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) (هود:47) ، وقولوا كما قال يونس:
( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) (الأنبياء:87)
>[8] .
[ ص: 149 ] ب- من العلماء المحدثين:
بلغت أمة المسلمين في العصر الحديث قعر الانحطاط، وعندما بلغت النهاية في التخلف في الوقت الذي كانت فيه أمم أخرى تعانق شمس الحضارة بل وحط بعضها بالفعل على القمر، طرحت أسئلة كثيرة تدور حول سؤال محوري عنوانه: "لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم"، وبدأت تظـهر بوادر ومشـاريع صحـوة إسلامية، انسحبت عليها كثير من مظاهر التدين التقليدي المنقوص، كل ذلك أدى إلى ظهور موجات نسبية من النقد الذاتي.
وفي منطقة الوسط من تيارات الفكر الإسلامي، ظهرت شخصيات ومدارس كثيرة عملت على تشخيص واقع الأمة وترشيد مظاهر الصحوة الإسلامية. وفي هذه المنطقة الوسطية ظهرت مدرستان نقديتان هما: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وسلسلة كتب الأمة الصادرة في قطر، ولعبتا دورا مشهودا في محاولة غربلة التراث الإسلامي ونقده، ونقد المناهج والتيارات التغريبية وأسلمة المعرفة، وفي ترشيد الصحوة الإسلامية وإكسابها البوصلة والفاعلية اللتين تمكنانها من الإقلاع الحضاري. حيث استكتبت الكثير من القدرات واجتذب الكثير من العلماء والمفكرين للكتابة حول قضايا النهوض الحضاري، بما يمكن اعتباره محاولات عريضة لتأصيل وممارسة النقد الذاتي.
[ ص: 150 ]
وعلى مستوى الأعلام، يمكن اعتبار محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وعبد الكريم بكار وخالص جلبي في مقدمة من دعوا وعملوا على ممارسة النقد الذاتي وترشيد الصحوة الإسلامية، واكتشاف عللها ومحاولة تقديم العلاج لها.
ومن أهم الكتب التي ألفت في ميدان النقد الذاتي: "في النقد الذاتي" للدكتور خالص جلبي، و "ظاهرة المحنة" للدكتور جلبي أيضا، "نظرات في مسيرة العمل الإسلامي"، و "مراجعات في الفكر والدعوة والحركة"، وكلاهما للأستاذ عمر عبيد حسنه، و "الأبعاد الغائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية" للدكتور طه جابر العلواني، و "الحركة الإسلامية - رؤية مستقبلية"، و "الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق"، وكلاهما للدكتور عبد الله النفيسي؛ وللأستاذ سالم البهنساوي كتابان هما: "أضواء على معالم في الطريق"، "سيد قطب بين العاطفية والموضوعية"؛ وللأستاذ عادل الخنساء كتابان هما: "نواقص القيادة الحركية في العمل الإسلامي المعاصر"، و "الانتحار الذاتي للجماعات الحركية في العمل الإسلامي المعاصر"، وللدكتور عبد الرشيد صقر ثلاثة كتب هي: "علل التيار الإسلامي"، "سلبيات الحركة الإسلامية وعلاجها"، "أشواك في الحقل الإسلامي".
وفي ذات السياق نقد الشيخ محمد الغزالي وضع الأمة الإسلامية، رافضا التبريرات التي تطرح من هنا أو هناك لتفسير حالة التخلف الشامل التي
[ ص: 151 ] تعيشها الأمة، ودعا إلى إنشاء أجهزة للنقد
>[9] . وفي حرب الخليج التي اعتبرها كاشفة لعورة العرب، اشتدت مطالبته وارتفع صوته الداعي إلى تفعيل النقد الذاتي، حيث نقد الإسلاميين، ودعاهم لممارسة نقد أنفسهم
>[10] .
وما تزال كثير من الموانع تنتصب للحيلولة دون تفعيل النقد الذاتي، من قبل أصحاب التيارات التقليدية، والذين يخلطـون ما بين الثابت الذي لا يجـوز نقـده، والمتغـير الذي قـد يكون نقده واجبا وليس سائغا فحسب.
وفي هذه المنطقة يحدث خلط بين الدين والتدين، فالبعض يتعامل مع التدين، وهو كسب بشري نسبي، ومع الدين وهو تنـزيل إلهـي مطـلق، كما لو أنهما وجهان لعملة واحدة، ومن ثم فإن هؤلاء يسحبون بعض خصائص الدين لصالح التدين، مما يؤدي إلى أضرار فادحة على فكر المسلمين وفقههم، وعلى واقعهم المعاش، حيث صار الركود والتأسن والاجترار سمات تدمغ الفكر والواقع الإسلاميين.
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنه: "إن نظرة التقديس وغياب النقد والتقويم أعطى لونا من الأمن والاطمئنان الخادع، وأقول: والجراءة، وليس الجرأة، لكثير من غير المؤهلين وغير المتخصصين من حاطبي الليل دخول
[ ص: 152 ] المجال التربوي بكل ميادينه، على خطورته وأهميته، والكتابة فيه، بل والتأليف فيه وإلقاء المحاضرات؛ لأنـهم بمأمن من النقد والمراجعـة، فهم يدعون أنهم لا يتكلمون من عند أنفسهم وإنما يبلغون رسالة ربهم(!) وعلى المتلقي أن يقبـل ويسمـع دون أن يفكر ويختـبر ويقوم ويراجع؛ لأن ذلك دين، وأي مناقشة أو نقد قد يؤدي إلى التأثيم والفسوق والزندقة، وبذلك تحول الأمر إلى نوع من الوصاية والكهانة على البشر وممـارسة عقود الإذعان، كما يقال.. ولعل هذه الجراءة في الإقدام لا يمارسها إلا جاهل لم تؤدبه المعرفة، ولم يعرف حدود نفسه وحقيقة التربية"
>[11] .
إن النقد ضروري للتخلص من كثير من آفات الفكر وشوائب التفكير وعلل التدين المنقوص والمغلوط والمشبوه والمغشوش .
إن النقد كما يرى د. بكار يبلور معرفة الثقافة بنفسها، وهو على كل حال لا يؤذي إلا الحالات المريضة، ويؤكد أن الاستمرار في النقد شرط للبقاء في الطريق الصحيح
>[12] .
إن النقد يعني أن الإنسان واع بذاته وقدرته على تجاوز النماذج الشائعة، والعودة إلى الأصول والأهداف الكبرى. ولما كان البناء الفكري
[ ص: 153 ] بناء هشا؛ فإنه يحتاج دائما إلى رعاية وحياطة، والنقد هو الذي يساعد على تجديده ودوام توهجه، والنقد لا يحيا إلا بالنقد، ومجادلة الفكرة بالفكرة، والطريقة بالطريقة، وسيظل النقد يحظى بمشروعيته من خلال اتسام البشر بالقصور
>[13] .
وما دام الخلط بين الثنائيات قائما وخاصة بين الثوابت والمتغيرات، ومادام الارتجال والعشوائية وعدم احترام التخصصات قيما حاضرة في حياتنا، فإن الموضوعية ستظل ناقصة الأركان والأسس، ولهذا سيكون الأساس السابع حول قضية احترام التخصصات.
[ ص: 154 ]