1- تأسيس القرآن للتخصصات:
نصت مصادر الإسلام على أسس ودوافع التخصصات، حيث يحتوي القرآن والسنة على أصول "آيات الآفاق"، وهي ميدان التخصصات العلمية، وأصول "آيات الأنفس" وهي ميدان التخصصات الإنسانية والاجتماعية، وقد حث القرآن على السير في الأرض، والنظر في آيات الكون، والاستفادة منها في عمارة الأرض في دائرتي الاستهداء والاستثمار، وذلك في عشرات المواضع في القرآن الكريم، حيث جعل القرآن التفكر فريضة من أهم فرائض الإسلام.
عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة فتوضأ، ثم صلى، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، قالت: فقال يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك ومـا تأخر؟ قال: "ويحك
[ ص: 155 ] يا بلال، وما يمنعـني ما أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة
( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) (آل عمران :190)"، ثم قال:
( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) >[1] .
وفرض الإسـلام التخصص في سد ثغرة من ثغور هذا الدين العلميـة أو السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو العسكرية، قال تعالى على سبيل المثال:
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) ، وقال:
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) (آل عمران :104) ، ومن خلال هذه الآيات وأمثالها ذهب العلماء إلى أن كل تخصص من التخصصات العلمية ومن ثم العملية فرض كفاية إذا قام البعض به بحيث يسدون حاجة الأمة فيه أجروا، وإن لم يقوموا به أثمت الأمة كلها حتى تفرز من بينها مجموعة تلبي حاجتها في ذلك التخصص، ويستوي في ذلك طلب العلم الشرعي، وتعليم الناس، والدعوة، والجهاد العسكري، وهي المشار إليها صراحة في الآيتين السابقتين، وكذلك الطب والهندسة
[ ص: 156 ] والفيزياء والكيمياء والفلك وعلوم النفس والاجتماع والتاريخ والجغرافيا، والآداب والفنون والحرف المختلفة.. إلخ.
هذه الأعمال التي تقوم بمخ العبودية، أي عمارة الحياة، هي المشار إليها جميعا تحت عنوان:
( وعملوا الصالحات ) والذي اقترن ذكره بالإيمان في القرآن بصيغ متعددة في أكثر من ثمانين موضعا.
ومثلما تحدث القرآن عن الآيات الكونية، وكيف أن كل واحدة تؤدي عمـلها الذي تخصصت فيه بانتظام وانضباط، متكاملة فيما بينها، كما قال تعالى:
( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم *
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم *
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) (يس:38-40) ، فهكذا ينبغي أن تسير التخصصات في استعمار الأرض وإقامة الحياة الطيبة لخليفة الله في هذه الأرض، بدون تداخل أو تعارض، وبدون عشوائية أو ارتجال!
وحث الإسلام على التخصص من خلال مئات الآيات ذات الصلة بالعلم والفكر وتفعيل جهاز الوعي في الإنسان، وهو السمع والبصر والعقل، قال تعالى:
( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) (النحل:78). ويتم تفعيل جهاز الوعي في آيات الكون بالتفكر، وفي آيات الأنفس بالتبصر، وفي آيات القرآن بالتدبر، وآيات الاجتماع بالاعتبار، بمعنى إعماله في هذه الآيات بعلم، قال تعالى:
( ولا تقف ما ليس لك به علم إن [ ص: 157 ] السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36). وحرم في المقابل القول بدون علم وكذلك الظن، كما أسلفنا في بيان ذلك.
وإذا كان الإسـلام في منطـوق القـرآن يحرم إعمال جهاز الوعي بدون علم فيما يخص حقوق الله مما يتصل به مباشرة، فمن باب أولى العبادات المرتبطة بحقوق الإنسـان جسمـا وعقلا ومالا وعرضا، والتي تتصـل بخـدمتها كل التخصـصات الموجودة في الحياة؛ لأن الأصـوليين متفقون على أن "حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق الناس مبنية على المشاحة". ومن هنا ذهب الفقهـاء إلى أن من يعالج شخصا بدون علم فيسبب له مشكلة أو عاهة فإنه ضامن، وكذلك من يعبث بأدوات النـاس وآلاتـهم وممتلكاتهم، وهو ما اصطلح على تسميته عند الفقهاء بـ:"تضمين الصناع".