ثانيا: التربية العلاجية وسبلها:
نشـير بين يدي هذا المطـلب إلى دراسة أجريت بالسعودية حول الآثار النفسية للإعاقة، فقد أكدت ضـرورة اعتماد التأهيل الشامل في تحقيق الاستقرار والتوازن في شخصية ذوي الاحتيـاجات الخاصة وجسده، إذ تبين من نتائجها أن الغالبية العظـمى من أفراد العينة (130فردا) التي تؤهل فنيا فقـط يعانون من الاكتئاب النفسي، بلغت النسبة إلى 80.33%؛ وأن 75% تعاني من القلق النفسي، ونسبة مماثلة تعاني من الانطواء الاجتماعي والاضطراب في الشخصية، الأمر الذي دعا الدكتور الطريقي إلى الدعوة لضرورة الأخذ بالتصور الإسلامي للإنسان باعتباره جسدا وروحا، فـإذا ما أصيب بإعاقة جسـدية أو نفسية فهـو مدعو باسم الإسـلام للنظر إلى بقية ما فيـه من قيم ومعان وقدرات، وهذه دعوة للمسـؤولين لمسـاندة ذوي الاحتياجات الخاصة ودعمهم وحسن التعامل معهم
>[1] .
والتربية العلاجية لذوي الاحتياجات الخاصة يتقاسمها طرفان: المعني والمجتمع، وهو ما يستفاد من المبادئ والتوجيهات الإسلامية:
[ ص: 48 ] 1- بالنسبة للمعني (ذوي الاحتياجات الخاصة):
نجد كثيرا من الآيات والأحاديث النبوية تعمل على تقويم المشاعر الذاتية، وتدفع بها للتسامي ككظم الغيظ، كما في قوله تعالى:
( وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين *
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) (آل عمران: 133-134)، وأخرج الترمذي في سننه عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء ) >[2] .
وما العفو عن الإساءة إلا عز في الهدي المحمدي، وما أحوج صاحب الحاجات الخاصة إلى الشعور بهذا الإحساس الذي يرتفع به عن إحباط مشاعر النقص التي تخـلفها الإعاقة، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) >[3] ، ترفع عن رد إساءة الجاهلين بالقول سلاما
( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) (الفرقان:63).
[ ص: 49 ]
وكذلك النهي عن الظن السيئ، كما في قوله تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ) (الحجرات:12)، وطاعة الله ورسـوله كما دل الحـديث المتفق عليه، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قـال:
( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا ) >[4] .
وكذلك التنـزه عن حسـد الآخـرين على ما آتاهم الله تعالى:
( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) (النساء:54)؛ ولما للحسد من آثار نفسية مدمرة على الكيان النفسي والجسماني للإنسان نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الحسد، وشبه المشاعر المشتعلة التي تعتلج في فؤاد الحاسد بالنار التي تأتي على الحسنات؛ روى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) >[5] .
ومن التسـامي والترفع بالمشـاعر عـدم الأسى على ما مضى وعلى ما أصاب
( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) [ ص: 50 ] (آل عمران :153) فالمؤمن عند نزول المصيبة به من عجز مقدور -مثلا- مطـالب شرعا بالتسـليم بقدر الله تعالى فيه، ثـم عـدم الأسى على أنه لم يفعل كذا وكذا مما لا يرد قضـاء الله تعـالى ولا يحقق له نفعا يزيل عنه ما وقع به. فيكون من التربية النفسية الناجعة توجيـه مشاعره إلى عـدم الأسى وتمنـى ما فـات؛ وهـذا ما يمكن استلهامه من الحديث الذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير؛ احرص على ما ينفعك، واستـعن بالله ولا تعجـز، وإن أصـابك شـيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) >[6] .
كما يوجه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن في مثل هذه الأحوال إلى النظر إلى أحوال من هم أكثر ضررا وأفدح مصابا، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ) >[7] .
[ ص: 51 ]
وقد تستبد بذوي الاحتياجات الخاصة مشاعر الضيق واليأس وكراهية الحياة وتمني الموت تخلصا مما هو فيه من عجز. فمراعاة لهذه الحال النفسية المتردية نجد في التوجيهات النبوية الحكيمة ما ينأى بالمسلم المصاب ببلاء الإعاقة عن تلك المشـاعر؛ من ذلك حديث أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ) >[8] ، فتربية فئات من ذوي الاحتياجات الخاصة على هذه المعاني تساعدهم كثيرا على التغلب على العقد النفسية التي قد تصيبهم جراء إعاقتهم، ومتابعتهم لما يتمتع به الأسوياء غيرهم من صحة ونشاط.
ويمثل خلقا الصبر على الابتلاء والرضى بما قسم الله تعالى وكتب
>[9] في هذه الأحوال أكثر المبادئ الإسلامية فعالية في العلاج النفسي الإسلامي المتميز بعدة خصائص
>[10] ، وتظهر آثاره في تحمل الشدائد والكوارث والمصائب. وهنا يظهر الفرق جليا بين الإنسان المؤمن وما يمنحه له إيمانه من
[ ص: 52 ] قدرة على تحمل ما يحل به من نوائب الدهر، وبين الإنسان الملحد أو قليل الإيمان، حيث يستطيع المؤمن تحمل هذه الصعاب بقلب المؤمن وإيمان العاقل الذي يؤمن بقضاء الله وقدره
>[11] .
ولهذا حظي الصبر بنصيب وافر من الآيات والأحاديث النبوية كقوله تعالى:
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين *
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) (البقرة:155-156)، وقوله:
( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (الزمر:10)؛ وعن أبي يحي صهيب بن سنان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير -وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) >[12] .
ويكافأ الصابر من ذوي الاحتياجات الخاصة تحديدا بالجنة؛ فعن أنس، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه ) >[13] ، وجزاؤه على الصبر على الابتلاء في الجسـد الغفران؛ فعـن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال:
( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم [ ص: 53 ] ولا حزن ولا أذى ولا غـم حتى الشـوكة يشـاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) >[14] .
كما يكافأ كذلك باستمرار حسبان أجره مما كان يعمله وهو سليم؛ ورد في الحديث:
( إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال للملك: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه ) >[15] ، بل في ذلك دليل على رفعة المنـزلة عند الله تعالى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( من يرد الله به خيرا يصب منه ) >[16] ، ولا يقدح في ذلك أن ذا الحاجة الخاصة والمبتلى قد يشعر بالألم ويبدو عليه ذلك الشعور والإحساس، فالإسلام دين الواقعية والفطرة.
يقول ابن القيم، رحمه الله: "وليس في استكراه النفوس لألم ما تصبر عليه، وإحساسها به، ما يقدح في محبتها وتوحيدها، فإن إحساسها بالألم، ونفرتها منه، أمر طبعي لها، كاقتضائها للغذاء من الطعام والشراب، وتألمها بفقده. فلوازم النفس لاسبيل إلى إعدامها أو تعطيلها بالكلية، وإلا لم تكن نفسا إنسانية، ولارتفعت المحنة وكانت عالما آخر"
>[17] .
[ ص: 54 ]
أما الرضى بما قسم الله تعالى وكتب فمن ثمراته -في هذا السياق- حصول السعادة التي لا سبيل إليها، للذين أبتلوا، غيره؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الرضى بالمقدور من سعادة ابن آدم، وسخطه من شقاوته"
>[18] وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم :
( من سعادة ابن آدم: استخارته الله، ومن سعادة ابن آدم: رضاه بما قضاه الله، ومن شقوة ابن آدم: تركه استخارة الله، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله عز وجل ) >[19] .
ومن الآثار النفسية العالية المردود على الكيان النفسي للمسلم الراضي بقضاء الله تعالى عموما والمبتلى من ذوي الاحتياجات الخاصة، خاصة إذا تلقى التربية العلاجية المناسبة "أن الرضى يثمر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور، وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا، وبرد القناعة، واغتباط العبد بقسمة من ربه، وفرحه بقيام مولاه عليه، واستسلامه لمولاه في كل شيء، ورضاه منه بما يجريه عليه، وتسلمه له الأحكام والقضايا، واعتقاده حسن تدبيره، وكمال حكمته. ويذهب عنه شكوى ربه إلى غيره وتبرمه بأقضيته"
>[20] .
[ ص: 55 ] فهذا العلاج النفسي الذي يثمره حسن التخلق مع الله تعالى بهذا الخلق وغيره من أجدى الأساليب التربوية لحصول الصحة النفسية، التي هي غاية علم النفس ومدارسه المعاصرة على تنوعها واختلافها.
2- بالنسبة للمجتمع:
ونظرا للدور الإيجـابي، أو السلبي، الذي يضطلع به المجتمع في حياة ذوي الاحتياجـات الخاصة، وجب تربيته وتوجيهه هو بدوره لأساليب تربوية سليمة في تعامله وواجبه تجاهه؛ منها: تقبل ذوي الاحتياجات الخاصة (خاصة الطفل من أهـله) على علاته؛ مراعاة قدراتهم وإمكاناتهم أثناء تربيتهم وتعليمهم؛ العمل على تربية ذوي الاحتياجات الخاصة على الأمل والبعد عن اليأس؛ ضرورة الاندماج والمشاركة في بيئة ذوي الاحتياجات الخاصة، فيحق لهم استخدام مؤسـسات المجتمع وإمكاناته كغيرهم، وتمكينهم من الخروج إلى المجتمع والمشاركة في مناسباته، وتكوين العلاقات الاجتماعية الشخصية
>[21] . فضلا عما سبق الإشارة إليه من أن الأسوياء والأصحاء في المجتمع هم الذين في حاجة حقيقية لذوي الاحتياجات الخاصة المبتلـين والمعاقين، خاصة في أصعـب الظروف التي يحتـاجون فيها إلى المنعة والعزة والنصر.
[ ص: 56 ]