الصفات التي فطر عليها الإنسان:
وإذا عدنا إلى الآيات التي ورد فيها ذكر كلمة "الإنسان" وجدنا أن هناك صفات فطر عليها الإنسان، أي مشتركة بين الذكر والأنثى. فلقد أخبرنا الله عز وجل بأنه خلق الإنسان من سلالة من طين، وبالتحديد من صلصال من حمإ مسنون:
( خلق الإنسان ) (الرحمن:3) ،
( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) (التين:4) ،
( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ) (الرحمن:14) ،
( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) (المؤمنون:12) ،
( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ) (السجدة:7) ،
( فلينظر الإنسان مم خلق *
خلق من ماء دافق ) (الطارق:5-6) ،
( خلق الإنسان من علق ) (العلق:2)
( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون ) (الحجر:26) ،
( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) (الإنسان:2).
الإنسان سريع النسيان، بما فيه الذكر والأنثى، ينسى أنه مخلوق لا يملك نفسـه، ورغـم أنه خلق من نطفة لا ترى بالعين المجردة إلا أنه خصيم مبين أي شديد الخصومة والإنكار لما أخبره به ربه
>[1] . وإنه في أصله جاهل علمه الله مالم يعلم:
( علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:5) ،
( أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) (مريم:67) ،
( هل أتى على الإنسان حين من [ ص: 42 ] الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) (الإنسان:1 )، أي هل أتى على كل إنسان حين كان فيه معدوما
>[2] ؛
( خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) (النحل:4) ، وتعريف الإنسان هنا للعهد الذهني، وهو تعريف الجنس، أي خلق الجنس المعلوم الذي تدعونه بالإنسان
>[3] ؛
( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) (يس:77) ، جـاء في تفسـير هـذه الآية أنها نـزلت في أبي بن خلف -والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب-، وقوله
( أولم ) أعم من قوله (أو لم يروا) يعني كل إنسان قد يغفل عن الأنعام وخلقها عند غيبتها ولكن لا يغفل وهو مع نفسه متى مايكون وأينما يكون. فما بال الإنسان أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة، فإذا هو (خصيم) أي ناطق، وذكره الخصيم بدل الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتـكلم مع غيره، والمتكـلم مع غيره إذا لم يكن خصما لا يبين ولا يجتهد مثلما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه. وقوله
( مبين ) إشارة إلى قـوة عقـله، وقوله تعالى:
( من نطفة ) إشارة إلى أدنى مـا كان عليه. وقـوله:
( خصيم مبين ) إشـارة إلى أعلى ماحصل عليه
>[4] .
[ ص: 43 ]
- العجلة:
( وكان الإنسان عجولا ) :
ولقد ابتلى الله عز وجل الإنسان بصفات خلقية، سواء الذكر أو الأنثى، ليرى مامدى انقياده لأوامر الله عز وجل:
( خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) (الأنبياء:37 )،
( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) (الإسراء:11). "العجل": السرعة. وخلق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جبلة الإنسانية؛ وإن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية
>[5] . فالإنسان خلق من عجل أي يطلب الشيء قبل أوانه
>[6] . والقول في تأويل قوله تعالى:
( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) (الإسراء:11 )، يدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر، فيقول: اللهم أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه، كدعائه بالخير يقول كدعائه ربه بأن يهب له العافية، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده، يقول: فلو استجيب له في دعائه على نفسه وماله وولده بالشر كما يستجاب له في الخير هلك، ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك
>[7] .
وأخرج الطبري رواية جاء فيها: "قال فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما.
[ ص: 44 ] فلما انتهت النفخة إلى سرته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر. فهو قول الله تعالى:
( وكان الإنسان عجولا ) (الإسراء:11 )، قال ضجرا، لا صبر له على سراء، ولا ضراء"؛ وفي موضع آخر: "فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول:
( خلق الإنسان من عجل ) (الأنبياء:37). لذلك أمر الله عز وجل في مقابل ذلك الابتلاء أن يتحلى بالصبر"، ولذلك أيضا فإن الصبر يتفاوت بين الناس سواء بين الذكر والأنثى أو بين أفراد الجنس الواحد.
- الضعف
( وخلق الإنسان ضعيفا : )
ولقد خلق الله عز وجل الإنسان ضعيفا كما جاء في محكم تنـزيله:
( وخلق الإنسان ضعيفا ) (النساء:28) ، والضعف هنا المقصود به الميل الفطري للرغبات الشهوانية. ابتلى الله عز وجل الذكر والأنثى بحب الشهوات، وأمرهم بالاعتدال في طلبها عن طريق الزواج، وقال تعالى:
( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) (النساء:28).
- الهلع
( إن الإنسان خلق هلوعا ) :
ويندرج تحت صفة الضعف صفات أخرى مثل الهلع، يقول تعالى:
( إن الإنسان خلق هلوعا *
إذا مسه الشر جزوعا *
وإذا مسه الخير منوعا *
إلا المصلين *
الذين هم على صلاتهم دائمون ) (المعارج:19-23)
[ ص: 45 ] ، يرى ابن عاشور أن المقصود بالإنسان: جنس الإنسان، لا فرد معين
( إن الإنسان خلق هلوعا ) (المعارج:19) ، والهلع شدة الجزع مع شدة الحرص والضجر وقلة الصبر. وفي رواية: خلق هلوعا قال: شحيحا جزوعا... وعن عكرمة
( إن الإنسان خلق هلوعا ) ، قال: ضجورا. وعن قتادة في قوله:
( خلق هلوعا ) ، قال: جزوعا. وقوله:
( إذا مسه الشر جزوعا ) ، يقول: إذا قل ماله وناله الفقر والعدم فهو جزوع من ذلك، لا صبر له عليه،
( وإذا مسه الخير منوعا ) (المعارج:21) ، يقـول: وإذا كثر ماله ونال الغنى فهو منوع لما في يده، بخيل به لا ينفقه في طـاعة الله، ولا يؤدي حق الله منه، وقوله:
( إلا المصلين *
الذين هم على صلاتهم دائمون ) ، يقول: إلا الذين يطيعون الله بأداء ما افـترض عليهم من الصـلاة، وهـم عـلى أداء ذلك مقيمون، لا يضيعون منها شيئا، فإن أولئك غير داخلين في عداد من خلق هلوعا، ... وقيل: عني بقوله:
( إلا المصلين ) ، المؤمنون الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل: عني به كل من صلى الخمس
>[8] .
أما ابن عاشور فلقد أورد تفسيرا متميزا لهذه الآية
>[9] ، حيث رجع بنا إلى الهدف السامي الذي خلق لأجله الإنسان، أن يكون خليفة الله في الأرض، وهذا القصد الإلهي شمل الجنسين الذكر والأنثى.
[ ص: 46 ]
- الطغيان
( إن الإنسان ليطغى ) :
وصفة الطغيان
( كلا إن الإنسان ليطغى ) (العلق:6) ، حيث يتجاوز الإنسان حدود الله بسبب كثرة معاصيه. يقول الطبري في تفسير قوله تعالى:
( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) (البقرة:15): "الطغيان الفعلان، من قولك طغى فلان يطغى طغيانا إذا تجاوز في الأمر حده فبغى، ومنه قول الله تعالى:
( كلا إن الإنسان ليطغى *
أن رآه استغنى ) (العلق:6-7) ، أي يتجاوز حده، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: (ودعا الله دعوة لات هنا بعد طغيانه فظل مشيرا)، وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله: ويمدهم في طغيانهم أنه يملي لهم ويذرهم يبغون في ضلالهم وكفرهم"
>[10] .
- الجحود والنسيان وسرعة كفران النعمة:
صفة الجحود والنسيان وسرعة كفران النعمة، فالذكر والأنثى كلاهما مبتلى بهذه الصفة، والتي غالبا ما تتهم بها المرأة أكثر، وأمر بالعمل على استحضار شكر الله عز وجل في السراء والضراء، قال الله تعالى:
( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ) (الزمر:8) ، وقال الله تعالى:
( فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ) (الزمر:49). وقال الله
[ ص: 47 ] تعالى:
( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) (يونس:12) ، وقال الله تعالى:
( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ) (فصلت:49) ، في حال الإقبال ومجيئ المرادات لا ينتهي قط إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ويطمع بالفوز بها، وفي حال الإدبار والحرمان يصير آيسا قانطا، فالانتقال من ذلك الرجاء الذي لا آخر له إلى هذا اليأس الكلي يدل على كونه متبدل الصفة متغير الحال؛ وفي قوله:
( فيئوس قنوط ) (فصلت:49) ، صيغـة مبالغة أي شـديد اليأس من رحمـة ربه، واليأس من صفـة القلب. والقنوط أن يظهـر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهرة
>[11] ، قال تعالى:
( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) (فصلت:51) ، وقال تعالى:
( إن الإنسان لربه لكنود ) (العاديات:6) ، لكنود أي لكثير جحود النعمة، لكفور لنعم ربه والأرض الكنود التي لا تنبت شيئا
>[12] . وقال تعالى:
( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) (إبراهيم:34)
[ ص: 48 ] ، "القول في تأويل قوله تعالى:
( وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ، ) يقول تعالى ذكره: وإن تعدوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها والقيام بشكرها إلا بعون الله لكم عليها. إن الإنسان لظلوم كفار يقول: إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لظلوم يقول لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير وضعه وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم، واستحق عليه إخلاص العبادة له"
>[13] .
قال تعالى:
( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) (الأحزاب:72 )، جاء في تفسير هذه الآية أوجه كثيرة كما ورد في التفسير الكبير، والذي يهمنا هو "المراد الإنسان يظلم بالعصيان، ويجهل ما عليه من العقاب، أو أن الإنسان من شأنه الظلم والجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه، وبعضهم ترك الظلم وترك الجهل"
>[14] .
قال تعالى:
( وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين ) (الزخرف:15) ، وقال تعالى:
( قتل الإنسان ما أكفره ) (عبس:17) ، وفي تفسير هذه الآية جاء في الطبري "قتل الإنسان ما أكفره تعجبا من كفره بالذي خلقه وسوى خلقه"
>[15] .
[ ص: 49 ]
ولقد فطر الله عز وجل الإنسان على الكد والمشقة، فمن حاول الهروب من مواجهة المشقات من ذكر أو أنثى يعني هذا محاولة الخروج عن الفطرة الصحيحة؛ قال تعالى:
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) (البلد:4) ، جاء في تفسيرها: "معناه لقد خلقنا ابن آدم في شدة وعناء ونصب، في كبد حين خلق في مشقة، لا يلقى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والآخرة... وفي رواية: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم. وفي رواية أخرى: لقد خلقنا الإنسان في كبد أي يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وفي أخرى: في كبد أي في شدة، وعن ابن عباس قال: في شدة معيشته وحمله وحياته ونبات أسنانه. وجاء في تفسيرها أيضا: معنى ذلك أنه خلق منتصـبا معتدل القامة. وجـاء أيضا: بل معنى ذلك أنه خـلق في السماء. وأولى الأقوال في ذلك بالصـواب قول من قال: معنى ذلك أنه خلق يكابد الأمـور ويعالجها، فقوله في كبد معناه: في شـدة، وهـذا هو الصواب لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب من معاني الكبد"
>[16] .
- حب المال.. والبخل:
( وكان الإنسان قتورا ) :
ولقد جبل الإنسان على حب المال وصفة البخل، وابتلي بالاعتدال في النفقة، فلا يقبض كل القبض، ولا يبسط كل البسط. وابتلي بالصدقة والزكاة وإكرام الضيف وأعمال أخرى تمس أمواله. يمتحن فيها مدى صدقه مع الله عز وجل، وإيمانه بالقضاء والقدر خيره وشره، وتوحيد صفاته، فهو الرزاق بيده
[ ص: 50 ] ملكوت السموات والأرض. قال تعالى:
( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) قتورا أي شديد التقتير، والبخل
>[17] .
- كثرة الجدل:
والإنسان كما خلقه الله عز وجل كثير الجدل ابتلاه بحسن استخدامه قال تعالى:
( ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) (الكهف:54). وجاء في تفسيرها: "يقول عز ذكره: ولقد مثلنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، ووعظناهم فيه من كل عظة، واحتججنا عليهم فيه بكل حجة، ليتذكروا فينيبوا، ويعتبروا فيتعظوا، وينـزجروا عما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان، قال تعالى:
( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) (الكهف:54) ، يقول: وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة لا ينيب لحق، ولا ينـزجر لموعظة"
>[18] .
حسب ما سبق، فإن الإنسان بشقيه الذكر والأنثى خلق من تراب. وفطره الله عز وجل على صفات ابتلاه بها. فأمره بضبطها فهو سريع النسيان ينسى أنه مخلوق لا يملك نفسه، وأنه في أصله جاهل علمه الله مالم يعلم، ظلوما معرض لظلم غيره. هذا الإنسان مفطور على العجلة والضعف، وباتصافه بصفتي الهلع والطغيان يتجاوز حدود الله بسبب كثرة معاصيه. وفيه صفة
[ ص: 51 ] الجحود والنسيان وسرعة كفران النعمة؛ ولقد فطر الله عز وجل الإنسان على الكد والمشقة. ولقد خلق الله جل وعلى في الإنسان صفة البخل. وكل فرد مسؤول عن نفسه، وسيحاسب في الآخرة منفردا فردا وحيدا.
ونخلص من هذه الأوصاف إلى أنه لا الذكر يتصف بالكمال ولا الأنثى تتصف بالكمال، وإن الذين بلغوا الكمال الإنساني المطلق هم الأنبياء فقط. فكلا الجنسين معرض للوقوع في الخطأ.
أما عن صفة العجلة فقد رأينا أن الإنسان بشقيه الذكر والأنثى معرض للوقوع في الخطأ بسبب تسرعه في اتخاذ القرارات أو غير ذلك. ويبقى التفاوت واردا بين الناس في قدرتهم على التحكم في هدوئهم وصبرهم، فمن النساء من تتقن التريث في اتخـاد القرارات، وخـير دليل قرآني ماجاء عن ملكة سبأ، كما سيتضح في المطلب الثاني، عندما وصلتها رسالة رسول سيدنا سليمان، عليه السلام، لم تأخذها العجلة في تقديم الرد قبل استشارة رجالها، وحتى بعد استشارتهم لم تتسرع في اتخاذ قرار الحرب الذي عرضوه عليها. وكم من حاكم استبد بالأمور، واستعجل في اتخاذ القرارات. وعليه فإن الصنفين موجودان في عالمي الرجال والنساء، أي المعتدل والمفرط في كيفية التعامل مع صفة العجلة. والأمر نفسه ينطبق على صفة الهلع، التي أورد فيها ابن عاشور تحليلا متميزا، كما سبق ذكره.
إن هذه الصفات إذا كامنة في الإنسان بنوعيه الذكر والأنثى، بمعدلات مختلفة ومتفاوتة. فلا يمكن الجزم بأن الرجال كلهم مطبوعون بصفات ثابتة
[ ص: 52 ] تضمهم في صنف واحد، وأن النساء كلهن صنف واحد، مطبوعات أيضا بصفات ثابتة. تتفاوت حدة هذه الصفات بين الناس، بين الرجل والمرأة من جهة، وبين الرجل والرجل الآخر، وبين المرأة والمرأة الأخرى. وهذا الرأي يؤيده قديما أفلاطون، وهو من فلاسفة قبل الميلاد، والذي تساءل ما إذا كان من الممكن إسناد بعض الوظائف إلى النساء في المدينة الفاضلة، ويقصد الوظائف التي يتولاها الرجال عادة دون النساء. ويجيب: "هناك نساء موهوبات في الطب، وغيرهن لم يوهبن منه شيئا... ونساء محبات للحكمة وغيرهن يبغضنها، ونساء يتصفن بالشجاعة، وأخريات بالجبن... فهناك إذا نساء جديرات بحراسة الدولة، وأخريات غير جديرات بذلك.."
>[19] .
وفي شرح وتعليق ابن رشد على تلك الفـكرة يقول: "إن النساء، بقدر ما هن من نوع واحد كالرجال من حيث القصد الأول من وجود الإنسان، فهن بالضرورة يشاركنهم فيه، بدرجة أقل أو أكثر. ذلك أنه إذا كان الرجل أكثر قدرة من المرأة في كثير من الأعمال البشرية، فليس من الممتنع أن يكون النساء في بعض الأعمال أكثر قدرة منه... ولما كانت طبيعة النساء والرجال من نوع واحد، وكانت الطبيعة التي من النوع الواحد تتحول في المدينة إلى نشاط من نوع واحد، فمن البديهي أن النساء يمكن لهن أن يتولين في هذه المدينة (الفاضـلة) الأعمال نفسها التي يتـولاها الرجـال، ما عدا تلك التي لا يقدرن عليها. فمن الواجب إذا أن تسند إليهن أكثر أنواع الأشغال سهولة.
[ ص: 53 ] وهذا يتبين بوضوح بعد الفحص عنه، فنحن نشاهد النساء يشاركن الرجال في الصناعات ما عدا ما يضعفن عنه. ونجد النساء أقدر من الرجال في بعض الصناعات كما هو الحال في صناعة الحياكة والخياطة وما أشبه ذلك. أما عن مشاركتهن في فنون الحرب وما شابهها، فإن هذا واضح في سكان الصحاري والثغور... ويواصل ابن رشـد قوله: وبالمثل، فبما أن بعض النساء ينشأن وهن على درجـة من التفـوق والفطنـة، فليس يمتنـع أن يكون من بينهن الفلاسفة والحكام"
>[20] .
مادامت الصفـات التي ذكرها القـرآن الكريـم موجودة في الجنسين فلا يوجـد مانع يقف حـاجزا أمام حضور المرأة في الموقع النخبوي، الذي يمنح المرأة صوتا في دائرة صنع القرارات السياسية والفكرية، التي تترتب عنها مصالح تمس الجنسين، أو صوتا لاستدراك ماتراه أصلح للمرأة أو صوتا لرد الظلم عن المرأة.
هـذا عن الإنسـان بنوعيـه، ذكرا أو أنثى، والذي يكون المجتمـع الإنساني الذي يخـاطبه القرآن الكريـم. ويتشكل هذا المجتمع حسب الوصف القرآني من فئآت لابد منها لتكوين المجتمع بشكل طبيعي وسيره واستمراره، وإذا اختلت أدوارها ووظائفها تعرض هذا المجتمع إلى اضطرابات داخلية بأشكال متنوعة. وتتجلى هذه الفئآت، عندما يوجه الله عز وجل خطابه للإنسان نفسه، أو عندما يتحدث عن الأمم التي خلت من قبل، أي قصص
[ ص: 54 ] الأنبياء بشكل عام. فنلاحظ أنه يتحدث عن الطبقة الحاكمة وعلاقتها بالطبقات الأخرى، والتي كانت تتمثـل في الأنبياء والرسل، والذين يسعون إلى توجيه العامة توجيها صحيحا، أو أهل الكتاب، أي علماء الدين، أو السحرة الذين أضلوا العامة بضلالتهم. ويوجه خطابه للعامة عنـدما يستخـدم كلمة الناس، أو الرجال، أو النساء.
والسؤال المطروح هنا حسب الخطاب القرآني: هل تشمل النخبة المسؤولة عن التغيير والإصلاح في المجتمع الإنساني الرجال والنساء؟ أم أن الأصل في النخبة أنها تتشكل من الرجال فقط؟ هناك من يتصور أنها تتشكل من الرجال فقط بدليل عدم وجود نبية مذكورة في القرآن، وأنه ذكر من الرسل والأنبياء الكثير. لكن هذا التفكير يحتاج إلى إعادة نظر.
مما لاشك فيه أن المرأة لا تملك المؤهلات الفطرية التي خلقها الله في الرجل لتكون نبية. هذا ما تأباه الفطرة ويرفضه العقل السليم، والجدال حول هذه المسلمة ضرب من الجنون واصطدام مع الفطرة، فالله عز وجل خلق في الرجل صفات خلقية مهيأة ليتولى السهر على راحة وحماية الأنثى، فهل ذكر في التاريخ جيوش كانت أغلبها نساء؟
والأنبياء، عليهم السلام، اصطفاهم الله عز وجل عن باقي مخلوقاته لصفاتهم البشرية النوعية والمتميزة، كلفوا بإعداد النخبة التي تتولى قيادة المجتمع على المستويات كلها، السياسية، والفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، مثلما فعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم . يمكن القول: إنهم بلغوا درجة الكمال التي تحدث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ،
[ ص: 55 ] فعن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) >[21] .
ولقد ورد ذكر اسم كل من مريم وآسيا في القرآن الكريم بشكل مباشر، مثلما ورد ذكر أسماء الأنبياء بشكل واضح. ويدل هذا على أن بعض النساء، بلغن درجة من الصلاح والتقوى ومستوى يرقى بهن إلى مصاف النساء النخبويات، وهذا شرف عظيم لجنس النساء على الرغم من أنهن لسن بنبيات مرسلات، فهن في مصاف العناصر النخبوية واللاتي بلغن من الكمال مقاما. وهو الكمال الذي عادة ما يكرم به الأنبياء.
وعليه، فعدم وجود نبية مذكورة في القرآن لا يحصر النخبة في الرجال فقط؛ لأن الأنبياء هم الذين يتولون إعداد النخبة التي تتـولى قيادة المجتمع، كما سبق أن ذكرنا. وهذا ما يدفعنا إلى دراسة موقع النساء اللاتي ورد ذكرهن في القرآن، سواء بشكل مباشر، أي مريم ابنة عمران، وآسيـا زوجة فرعون، أو غير مباشر بدون ذكر اسمها وهي ملكة سبأ. ونساء نـزل فيهن القرآن في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم . وهذه العناصر تعد نماذج نخبوية تاريخية قيمة، كان لهن أثر واضح في زمانهن، مما جعل القرآن يخلد أسماء بعضهن ويجعلهن مثلا يقتدى به.
[ ص: 56 ]