موقع المرأة النخبوي في مجتمع الرسالة

الدكتورة / ليلى رامي

صفحة جزء
المطلب الثاني: نماذج نسائية نخبوية في القرآن الكريم:

- مريم ابنة عمران >[1] : /14

لقد كان لبيت المقدس قداسته؛ إذ تمنت امرأة عمران أن يهبها الله غلاما تسخره لعبادته ولخدمة هذا البيت. لذلك نذرت ما في بطنها لله عز وجل، ظنا منها أن الجنين ذكر (آل عمران:35-36)، وأن يكون محررا أي خالصا مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس، قال تعالى: ( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) (آل عمران :36) ، أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى، وأخبرنا الله عز وجل أنه تقبلها بقبول حسن (آل عمران:37-38)، على الرغم من أنها ليست ذكرا.

يقـول تعـالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13) ، إن أكرم الناس، سواء كان ذكرا أم أنثى، عند الله عز وجل [ ص: 57 ] هو أتقاهم. هذا هو الميزان الذي اختاره الله عز وجـل لعباده لتمييز الأفضل من الناس. ولقد اصطفى الله عز وجل مريم على نساء العالمين بسبب درجة التقوى التي بلغتها. فلقد بلغت مستوى من التقوى لم يصله سوى الأنبياء، قال تعالى: ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) (آل عمران :42-43)، وجعلها مثلا يقتدى به، قال تعالى: ( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين * ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) (التحريم:11-12). فقوله تعالى: ( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها ) (التحريم:12) ، أي حفظته وصانته، والإحصان هو العفاف والحرية ( فنفخنا فيه من روحنا ) (التحريم:12)، أي بوساطة الملك وهو جبريل، عليه السلام. ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه ) أي بقدره وشرعه ( وكانت من القانتين ) (التحريـم:12) ، عن ابن عباس قال: خـط رسـول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعـة خطوط، قال: ( تدرون ما هـذا؟" فقـالوا: الله ورسـوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة [ ص: 58 ] بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ) >[2] . وفي رواية أخـرى: ( لم يكمل من النسـاء إلا آسية امـرأة فرعون ومريم بنت عمران ) >[3] .

ولقد ابتلى الله عز وجـل مريم بامتحان، لا تقدر مدى شدته وصعوبته إلا الصالحات من المؤمنات. ولقد ابتلى عائشة، رضي الله عنها، بما هو أخف منه حيث رموها بالزنا. لقد حملت مريم نبي الله عيسى من غير زوج ليكون آية للناس (مريم:16-30). لقد كان ابتلاء عظيما لها حتى تمنت الموت فقالت: ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) (مريم:23). وضعـها الله في موقـف لا يمكن أن تتخلص منه لوحدها، رغم شهادة الناس لها بالعدالة التي لا تقاس بغيرها. موقف، أمرها الله عز وجل فيه بعدم الكلام؛ لأن مثـل هذا الموقف لن يدع لها مجالا للدفـاع عن نفسهـا، على الرغـم من شهادة كل الناس لها بالصـلاح، إذ ماكان أبوها امرأ سـوء وما كانت أمها بغيا كما صرحوا لها، فموقف مثل هذا لم يضعوا له تأويلا غير الزنا >[4] . [ ص: 59 ]

لقد أيدها الله بمعجزة حتى تشهد ببراءتها مما يتصورون، فنطق المسيح عيسى ابنها وهو في المهد ليكون آية للناس. إن قصة السيدة مريم، عليها السلام، والسيدة عائشة، رضي الله عنها، كما سنرى، لأفضل دليل على أن المرأة مهما بلغت درجة الصلاح، فهي معرضة لأذى الناس. وعليه فلا تتخذ حجة حصانة المرأة من أذى الناس ذريعة لإبعادها عن موقعها النخبوي الذي يحتاج إليه المجتمع قبل أن يكون حقا لها >[5] .

هذا، ويعد أنموذج السيدة مريم أنموذجا أخلاقيا عاليا بسببه استحقت شرف الاصطفاء ومضرب المثل لمجتمعها والمجتمعات التي أتت بعدها.

التالي السابق


الخدمات العلمية