2- أسماء بنت أبي بكر الصديق
>[1] :
أسماء، بنت أبي بكر الصديق أول خليفة على المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم . وهي أسماء بنت عبد الله بن عثمان التيمية، والدة عبد الله بن الزبير بن العوام التيمية. وأمها قتلة أو قتيلة بنت عبد العزى، قرشية من بني عامر بن لؤي. أسلمت أسماء قديما بمكة. قال ابن إسحاق: بعد سبعة عشر نفسا، وتزوجها الزبير بن العوام وهاجرت وهي حامل منه بولده عبد الله، فوضعته بقباء. وكانت تلقب ذات النطاقين لأنها هيأت للرسول صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة سفرة فاحتاجت إلى ما تشدها به، فشقت خمارها نصفين، فشدت بنصفه السفرة، واتخذت النصف الآخر منطقا. وكانت من فقيهات نساء الصحابة، ومن العالمات منهن. وقيل: إن أسماء بلغت مائة سنة لم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل. وقيل: ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، وعاشت إلى أوائل سنة أربع وعشرين. وقيل: عاشت إلى أن ولي ابنها الخلافة، ثم انتقلت إلى الرفيق الأعلى بعده بعشرين يوما. وقيل غير ذلك.
تعد أسماء بنت أبي بكر هي ثالث راوية إذا أخدنا بعدد مروياتها كما جاء عند أحمـد بن حنبـل، وثامن راوية من حيث كثرة الرواية كمـا جاء عند بقي بن مخلد وابن حزم وابن الجوزي.
[ ص: 145 ]
وأحاديثها في الصحيحين والسنن رواها عنها ابناها عبد الله وعروة وأحفادها عباد بن عبد الله وعبد الله بن عروة وفاطمة بنت المنذر بن الزبير وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير ومولاها عبد الله بن كيسان وابن عباس وصفية بنت شيبة وابن أبي مليكة ووهب بن كيسان وغيرهم.
إن مرويات أسماء متنوعة. فقد رأينا سابقا أنها كانت سببا في نـزول الآية الخاصة بصلة الأرحـام عندما زارتها أمها وهي على الكفر فاستشارت النبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا كانت تستقبلها عندها في بيتها أم لا. وروت حول ما يتعلق بفرائض الحج، واللباس، وما يتعلق بوصل الشعر، وعن الكسوف، وما يتعلق بأمور النفقة، والتشبع من مال الزوج. ومداراة الزوج.
اشتهرت قصة أسماء التي تشير إلى مدى غيرة زوجها عليها، جعلتها تلك الغيرة لا تركب البعير الذي أناخه رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. وفي تلك القصة يتضح فقه معاملة الزوج عند أسمـاء. لقد فهمت أسماء أن غيرة الزوج شـيء طبيعي، يجب احترامها ومعرفة كيفية توجيهها دون أن تخدش كرامته. عن أسمـاء بنت أبي بكر قـالت:
( تزوجني الزبير ومـا له في الأرض من مال، ولا مملوك ولا شيء غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مئونته وأسوسه، وأدق النوى لناضحه وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق. قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ. قالت: فجئت يوما والنوى على رأسي. فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه فدعاني، ثم قال: إخ إخ، [ ص: 146 ] ليحملني خلفه، قالت: فاستحييت وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى على رأسك، أشد من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقتني ) >[2] .
وفي رواية أخرى عن ابن أبي مليكة أن أسماء قالت:
( كنت أخدم الزبير خدمة البيت وكان له فرس وكنت أسوسه، فلم يكن من الخدمة شيء أشد علي من سياسة الفرس، كنت أحتش له وأقوم عليه وأسوسه. قال: ثم إنها أصابت خادما، جاء النبي صلى الله عليه وسلم سبي فأعطاها خادما. قالت: كفتني سياسة الفرس، فألقت عني مئونته، فجاءني رجل فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. قالت: إني إن رخصت لك أبى ذاك الزبير، فتعال فاطلب إلي والزبير شاهد. فجاء فقال: يا أم عبد الله إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك، فقالت: ما لك بالمدينة إلا داري. فقال لها الزبير: ما لك أن تمنعي رجلا فقيرا يبيع فكان يبيع، إلى أن كسب فبعته الجارية، فدخل علي الزبير وثمنها في حجري، فقال: هبيها لي. قالت: إني قد تصدقت بها ) >[3] .
يمكننا أن نستخلص عدة مسائل في هذه الرواية: الحوار الذي دار بين الرجل وأسماء يعبر عن أسلوب العيش السائد آنذاك في علاقة الصحابة بالصحابيات في الحياة العامة. لو كان مثل هـذا السـؤال محظور في المجتمع ما كان ليتجرأ ذلك الرجل على سؤالها وخاصة عندما أعاد الطلب عليها في
[ ص: 147 ] حضور زوجها ولم يفعل ذلك معه. ونستخلص أيضا مدى حرص الصحابيات الجليلات على التصدق من المال الذي اكتسبنه سواء من عمل يد كما رأينا مع زينب، أو تجارة كما فعلت أسماء. ولقد فقهت أسماء أن مداراة الزوج لا تعني الكذب عليه بقدر ما تعني مراعاة مشاعر الغيرة فيه.
( وعن فاطمة عن أسماء أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة، فتدعو بالماء فتصبـه في جيبـها، وتقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابردوها بالماء، وقال: إنها من فيح جهنم ) >[4] .
موقع أسماء في الوسط النخبوي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :
يتجلى موقع أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، من خلال ارتباط سبب نزول آية تشريعية، كما يتضح أيضا من خلال بعض الروايات من السنة الشريفة.
يقول الله عز وجل:
( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8) ، أي يعاونوا على إخراجكم؛ أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة، الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم
( أن تبروهم ) أي تحسنوا إليهم
( وتقسطوا إليهم ) أي تعدلوا
( إن الله يحب المقسطين ) >[5] .
[ ص: 148 ]
روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت:
( قدمت علي أمي، وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صليها ) >[6] .
لم تكن أمهات المؤمنين فقط وراء سبب نـزول بعض آيات القرآن. فلقد كانت هناك عناصر نخبوية أخرى شاركت في صنع فكر الفترة المحمدية. فها هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، تستفسر عن أمر ليس خاصا بها فقط، فكل مسلم سواء كان رجلا أو امرأة معني بمسألة الإحسان إلى الوالدين، حتى ولو لم يكونوا مسلمين. فسؤالها يعبر عن موقف قد يتعرض له أي شخص، سواء كان من الرجال أو النساء.
إن الحياة الاجتماعية والثقافية لا تخل من المواقف، ومما لا شك فيه أن كل الصحابيات كن يتفاعلن معها، ويبدين آراءهن فيها، بدليل بعض الروايات القليلة جدا والتي تفيدنا بها المصادر، حيث تدل على أنه كانت هناك مواقف أخرى، لكنها لم تصلنا. ومن بين تلك المواقف استدراك أسماء على الصحابي عبد الله بن عمر. فعن عبد الله، مولى أسماء بنت أبي بكر، وكان خال ولد عطاء قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر، فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب كله. فقال لي عبد الله: أما ما ذكرت من رجب، فكيف بمن يصوم الأبد. وأما ما ذكرت
[ ص: 149 ] من العلـم في الثوب، فإني سمعـت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( إنما يلبس الحرير من لا خلاق له، فخفت أن يكون العلم منه. وأما ميثرة الأرجوان، فهذه ميثرة عبد الله فإذا هي أرجوان. فرجعت إلى أسماء فخبرتها، فقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخرجت إلي جبة طيالسة كسروانية، لها لبنة ديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج. فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت. فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها ) >[7] . وتعد هذه الرواية كنـزا فكريا يدل صراحة على التلاقح الفكري الذي كان ساري المفعول بين العناصر النخبوية، رجالا ونسـاء، وكما سيتضـح أكثر مع باقي الصحابيات وخاصة عائشة، رضي الله عنها.
عن أبي نوفل: رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة. قال فجعلت قريش تمر عليه والناس. حتى مر عليه عبد الله بن عمر. فوقف عليه. فقال: السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب! السلام عليك أبا خبيب! أما والله! لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله! لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله! لقد كنت أنهاك عن هذا. أما والله! إن كنت ما علمت صواما، قواما، وصولا للرحم. أما والله! لأمة أنت أشرها لأمة خير. ثم نفذ عبد الله بن عمر. فبلغ الحجاج موقف عبد الله وقوله. فأرسل إليه فأنزل عن جذعه. فألقي في قبور اليهود. ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر. فأبت أن تأتيه. فأعاد عليها
[ ص: 150 ] الرسول: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك. قال: فأبت، وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني. قال: فقال: أروني سبتي. فأخذ نعليه. ثم انطلق يتوذف. حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك. بلغنـي أنك تقـول لـه: يا ابن ذات النطاقين! أنا، والله، ذات النطاقين. أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب. وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه. أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا:
( أن في ثقيف كذابا ومبيرا ) فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فـلا إخـالك إلا إياه. قال: فقام عنها ولم يراجعها
>[8] .
لم تخش أسماء قول كلمة الحق أمام الحجاج وهي في هذا السن. فكيف تخشى قول الصدق وهي ابنة الصديق؟!. إن جرأتها اكتسبتها من مدرسة النبوة ومن بيت الصديق، الأمر الذي يدعو إلى التأمل والنظر إلى أهمية وجود هذه العناصر في المجتمع. لقد كان لأسماء دور بارز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، الأمر الذي خلدها بلقب ذات النطاقين. لقبت بوسام المشاركة التي بذلتها في بداية طريق الدعوة الإسلامية وفي أحرج فتراتها. ولقد بارك الرسول صلى الله عليه وسلم أعمالها، وتأهلت لحمل مسؤولية العلم، علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث روت عنه (58) حديثا، شاركت بهم في صنع الفكر الذي بني فيما بعد على أساس تلك المرويات.
[ ص: 151 ]