الخاتمة
ونأتي في الختام إلى استخلاص النتائج التي ترتبت عن هذا البحث:
1- أخلص إلى القول: إن النخبة في نظري والمرأة النخبوية بالتحديد هي التي تنتمي إلى تلك الطليعة من الناس، التي تعيش شعورا وإلحاحا داخليا يمدها بطاقة التحمل لمواجهة الواقع السيئ في المجتمع، وتكابد من أجل تغييره نحو الأحسن. ولا يشترط بالضرورة أن تكون العناصر التي تنتمي إلى تلك النخبة هي من العناصر المثقفة ومتولدة من نخبة المثقفين ثقافة أكاديمية فقط. فكل التخصصات المعاصرة لها نخبة متميزة ومبدعة سواء أكانت تعتمد على العقل أو قوة الساعد. والنخبة التي أقصدها هي تلك العناصر التي تبرز من مختلف تلك النخب والتي يجمعها هم واحد، وهو التغيير لتحقيق حياة أفضل لمجتمعاتها.
2- لا بد أن يحتوي المجتمع الإنساني في بنيته التركيبية على هرم يشمل الفئة الحاكمة والنخبة ثم العامة، إذا غابت فئة منه أو تعطل دورها ترتب عن ذلك خلل في سير حركة التغيير والتطور في هذا المجتمع. وتبين لنا من خلال دراسة وتحليل الخطاب القرآني أن فئة النخبة لا تضم الرجال فقط، بل اتضح لنا أيضا أهمية موقع المرأة في الوسط النخبوي في المجتمع المسلم، خاصة عندما رأينا بعض الآيات التي حسمت قضايا لا يزال سؤالها يتجدد طرحه إلى يومنا هذا، وهي المساواة بين الرجل والمرأة. ورأينا كيف أن جل الروايات تدل على أن هناك عناصر نسائية نخبوية هي التي أثارت هذه القضية. ودل هذا على ضرورة وجود العنصر النسوي، الذي يسهر على مراقبة مدى تطبيق المساواة العادلة كما أرادها الله عز وجل.
3- حتى نتمكن من استرجاع موقع المرأة النخبوي، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، عند شرحنا للأحاديث المتعلقة بالمرأة ضرورة عدم وضـع النسـاء في صنف واحد. كما ينبغي استحضار الصفات المشتركة بين الرجل والمرأة، مثلما ورد في القرآن الكريم. [ ص: 215 ]
4- تمثل النماذج التي اخترتها من الصحابيات إطلالة على بعض من إسهامات عناصر نخبوية نسوية أدت أدوارهن جنبا إلى جنب مع إخوانهن الرجال في المجتمع، خاصة في رواية الحديث، الذي يعتبر المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي وبالتالي ساهمن في الحفاظ على موروثنا التشريعي. وقد احتوت تلك الروايات مختلف مجالات الحياة سواء في العبادات أو المعاملات، واستطعت من خلال متون تلك المرويات استخلاص بعض إسهاماتهن وأثرهن في الوسط النخبوي. والمعلومات التي أوردتها كافية للتأصيل لموقع المرأة النخبوي في المجتمع الرسالي، وإثبات مدى أهمية وجدية هذا الموقع في الوسط النخبوي لإنتاج فكر متوازن يخدم كل أطراف المجتمع.
5- لقد كان لعائشة، رضي الله عنها، دور بارز في الوسط الفكري والاجتماعي، فقد كان لها اجتهاد في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتزييف، وخاصة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم . لقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون عائشة أنموذجا يقتدى به. ونقص مثل هذا الأنموذج في النخبة الفكرية لا بد أن يخلف فكرا غير متوازن. ولا أظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشرف عليها لتكون الأنموذج الذي لا يمكن أن يتكرر لاحقا، بل على العكس تماما أراد أن يعلمنا كيف نعتني ونحافظ على هذا النوع من النساء؛ لأن النخبة التي تسهر على توجيه الحركة التغييرية الفكرية والاجتماعية، لا يمكنها أن تستقيم بعنصر الرجال فقط. من يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتزييف أو يبلغ درجة الفتوى واستنباط الأحكام الشرعية مثل عائشة آنذاك لا بد أن يخوض بعمق في فكر مجتمعه، ويكون له احتكاك مباشر على نطاق واسع.
6- إن إدماج المرأة في المجتمع المسلم سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلقد كانت مشاركتها جزأ من حياتها، وعلى رأس هذه المشاركة يأتي أمر الإسهام في صنع القرار، وتقع المسؤولية في توفير الظروف الملائمة التي تحفظ المرأة والرجل في ظل الآداب الإسلامية على الدولة. وحتى تصـل المرأة إلى مستـوى صنع القرار، سواء السياسي [ ص: 216 ] أو الفكري، أثبت الواقع أنه لا يمكن أن تبلغه إذا لم تمارس العمل، بمعنى أن تدخل ميدان الشغل بعد الحصول على الشهادات العلمية، حتى تكتسب آراءا تتفق مع متطلبات الواقع. ورأينا من خلال سيرة الصحابيات أن مفهوم عمل المرأة كان له أبعاد مختلفة، وكون المرأة لم تكن مقيدة بعمل مؤسساتي يلزمها اتباع جدول معين يأخذ كل وقتها يمكن أن نطلق عليه بما يعرف اليوم توقيت مرن أو بالساعات، هذا ما سمح لهن التوفيق بين وظيفتهن الطبيعية ودورهن في المجتمع. غير أن الواقع المعاصر لعمل عامة النساء في ظل هيمنة النظام الرأسمالي لا يسمح لها بأداء وظيفة إعداد وتربية الجيل الصاعد. وبذلك فهـو لا يتفـق مع المبدأ الـذي تخرج من أجله المرأة للعمل، وهو تحقيق العبودية لله عز وجل، الذي أمرنا باستخلافه في الأرض. ولتحقيق شرف الاستخلاف يتوجب تحمل مسؤولية تسيير المجتمع نحو تحقيق تنمية روحية ومادية شاملة في كل المجالات، ويتحمل مسؤولية القيام بذلك الرجل والمرأة على السواء. وينبغي أن تقوم هذه التنمية على أساس معادلة نهضوية، تثمر قبل كل شيء إنتاج إنسان يرث دور الاستخلاف، ويعيش في ظروف مادية، تحفظ له البعد الروحي الذي يعينه على عبادة خالقه، ويكون قد وعى الهدف الذي خلق لأجله، وهو تحقيق العبودية لله. فلا حاجة لتنمية مؤقتة تقضي على النوع الإنساني، فقد تتحقق تنمية مادية تفتقر إلى جيل يرث مسؤولية الاستخلاف ويواصل السير لتحقيق نهضة شاملة.
يمكن أن نخلص من هذا الكتاب إلى توصيات نراها مهمة نذكرها كالآتي:
1- إن تراثنا الإسلامي ثروة لا تزال إلى حد الآن خاما، بالرغم من كل الجهود التي بذلت في البحث والتنقيب فيه. وهذا لا يرجع لضعف تلك المجهودات، بل لسعة هذا التراث. وهذا ما يدعونا إلى مواصلة البحث والتنقيب على المخطوطات التي تناولت السيرة الذاتية للعناصر النخبوية، التي تعرضت لها في هذا البحث. والبحث في هذا المجال يحتاج إلى طول نفس، لأنه مبعثر بين ثنايا مواضيع مختلفة. وإن الوسائل [ ص: 217 ] الحديثة قد أدخلت أعدادا ضخمة من الكتب في أقراص الليزر والإنترنت، وهذا يفسح المجال لاستقراء كل النصوص التي وردت فيها أسماء الصحابيات. وعملية جمع تلك النصوص والعبارات تعطينا مادة يمكن من خلالها تركيب خلفيات تاريخية عن الحياة الاجتماعية والفكرية للصحابة والصحابيات، رضوان الله عنهم أجمعين.
2- ينبغي جمع آراء أم المؤمنين السيدة عائشـة، رضي الله عنها، السياسيـة التي لا تزال متناثرة، والتي تحتـاج إلى جمع، خـاصة تلك التي أبدتـها في زمن معـاوية ابن أبي سفيان. وكذلك آراء أم المؤمنين ميمونة التي توفيت قريبا من زمن وفـاة عائشة، وغيرها من الصحابيات النموذجيات كأم سلمة وأسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم جميعا.
3- هناك عناصر نخبوية نسوية، وردت أخبارهن في غير كتب السنة، مثل كتب الأدب والتاريخ مثل بريدة والزرقاء وغيرهما، اللواتي يتطلب التنقيب عن سيرتهن من خلال كتب الأدب، وهو منهج في التوثيق لا يستهان به. فلقد وصلتنا إلى يومنا هذا المعلقات السبع، بالرغم من رجوعها إلى العصر الجاهلي، فالشعر مصدر مهم جدا لمثل هذه القضايا، ويمكن أن يساعدنا على الوصول إلى إسهاماتهن بشكل أوسع.
4- ضـرورة تتبع الأسـباب التي غيبت التأليف النسـائي للفقه على مر التاريخ الإسلامي.
5- أهمية إعداد بحوث خاصة مقارنة في الاقتصاد حول نظام توقيت عمل المرأة، وإعادة توزيع نظام الأجور على المرأة طبقا لعدد ساعات العمل.
6- إعداد بحوث في القانون تقنن لأنماط عمل جديدة تتولد من الثورة المعلوماتية الحديثة من شأنها أن تحفظ حقوق المرأة العاملة من بيتها ومن المؤسسة.
والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل. [ ص: 218 ]
السابق