1- الاستنتاج الاستقرائي:
عادة النظار المحققين في العلوم استهلال مباحثهم الكبرى بالقاعدة الكبرى والمبدأ العام الذي تنبني عليه مقولاتهم، وهو الأمر الذي يلمسه الدارس لمقدمة ابن خلدون، إذ كان ذلك مسلكه في أغلب الفصول إن لم نقل بكليتها.
يقول رحمه الله: "اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سـيرهم، والملوك في دولهم وسياستـهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط"
>[1] .
[ ص: 46 ]
إن هذا الكلام يمكن إيجازه وصياغته في مبدأ كلي، وهو ما أثبتناه سابقا: "حاجة المؤرخ إلى مآخذ ومعارف متعددة لتجنب المزلات والمغالط".
لذلك فإن مهمة المؤرخ تشرف بشرف مقاصدها الهادية إلى التبين والتثبت، وإحكام الأصول، وهذا لن يسهل مدركه إلا بتوظيف مجموعة من المعارف والمآخذ تسعفه على طلب الصدق والصحة. أما اكتفاؤه بسرد الأخبار والوقائع دون تمحيصها فستخرجه عن جادة الصواب، يضيف قائلا: "إن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق"
>[2] .