2- البيان الاستقرائي:
يحتاج المبدأ الاستقرائي السالف إلى الإحالة على مجموعة من الجزئيات الدقيقة، التي تندرج تحته وتؤصل لمفهومه العام، أما في الجانب التاريخي فابن خلدون يتطلب منه ذلك الإحالة على أخبار وأحداث تم ذكرها وسردها من قبل المؤرخين وهي تفتقر إلى الدقة العلمية والصدقية الإخبـارية، بسبب عوز من حـكاها إلى ما اعتبره مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن بصيرة وفطنة نظر، حتى يمكن حسبان المبدأ الاستقرائي المفترض استنتاجا أصلا أصيلا وقاعدة كلية صحيحة.
وذلك ما دأب عليه العلامة لما استهل تفسيره بقوله: "وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم
[ ص: 47 ] فيها على مجرد النقل، غثا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة"
>[1] .
وللإشارة فهو يدخل المفسرين وكتاب السيرة ضمن قائمة المنتقدين في نفس السياق، لاعتمادهم في تفسير القرآن على جملة معطيات تاريخية مغلوطة، ويضيف أن من جملة المعارف الأساسية: "الوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار"، لكن ذلك لم يوفقوا فيه كثيرا "فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط"
>[2] .
يستهل ابن خـلدون تفسـيره الاستـقرائي مع نظيره المسعودي، الذي لم يسلم هو الآخر من هذه المزلات، يقول، رحمه الله:
- "... وهذا كما نقل المسعودي
>[3] وكثير من المؤرخين
>[4] في جيوش بني إسرائيل بأن موسى، عليه السلام، أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشـرين فما فوقـها فكانوا ستمـائة ألف أو يزيدون"
>[5] . ويعلق على نقولات المسعودي وغيره قائلا: "ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عما فوقها..."
>[6] .
[ ص: 48 ]
- "ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقية والبربر من بلاد المغرب"
>[7] ، ويعزو كذب هذه القصص وبطلانها إلى أن: "ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب، وقراهم وكرسيهم بصنعاء اليمن، وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، فبحر الهند من الجنوب، وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق، وبحر السويس الهابط منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب، كما تراه في مصور الجغرافيا، فلا يجد السالكون من اليمن إلى المغرب طريقا من غير السويس، والمسلك هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما، ويبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن يصير من أعماله هذه ممتنع في العادة"
>[8] ، ويختم قوله: "فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة"
>[9] .
- وكذلك المفسـرون كان لهـم نصيب من نقـد ابن خـلدون، يقـول، رحمـه الله: "وأبعـد من ذلك وأعـرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة الفجر في قوله تعالى:
( ألم تر كيف فعل ربك بعاد *
إرم ذات العماد ) فيجعـلون لفظـة إرم اسما لمدينة وصفـت بأنـها ذات عماد أي أساطين"
>[10] ، وأضاف بعد سرد منقولاتهم: "ذكر ذلك
[ ص: 49 ] الطبري
>[11] والثعالبي والزمخشري
>[12] وغـيرهم من المفسـرين"، "وهذه المدينة لم يسمع لها خبر
>[13] من يومئذ في شيء من بقـاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا والأدلاء تقص طرقه من كل وجه، ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الإخباريين ولا من الأمم". ويصحـح حكيهم: "ولو قالوا: إنـها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه، إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة، وبعضهم يقول إنـها دمشق بناء على أن قوم عـاد ملكوها، وقـد ينتهي الهـذيان ببعضهم إلى أنـها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر، مزاعم كلها أشبه بالخرافات"
>[14] .
- "ومن الحـكايات المدخـولة للمؤرخـين ما ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيـد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد
[ ص: 50 ] مولاه، وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة حرصا على اجتماعهما في مجلسه، وأن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبه حتى واقعها زعموا في حالة السكر فحملت ووشي بذلك للرشيد فاستغضب" وهذه الحكاية يرفضها ابن خلدون لعدم اكتمال نصابها العلمي بمعرفة أحوال القوم وأخلاقهم، "وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبويها وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده، والعباسة بنت محمد المهدي ابن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد، ابن علي أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن، ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ". ويضيف منتقدا قولهم ومتسائلا: "وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم آبائه؟ "الشيء الذي يدعو إلى النظر بإنصاف وتجرد، لأنه "لو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف وقاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولج في تكذيبه"
>[15] .
ومما يزيد من تأكيد اشتغال ابن خلدون على مسلك الاستقراء التاريخي مجموعة من العبارات يوردها في نصوصه توحي بذلك، منها مثلا:
- "وأمثال هذه الحكايات كثيرة وفي كتب المؤرخين معروفة...".
- "ومن هذا الباب أيضا...".
[ ص: 51 ]
- "ويلحق بهذه المقالات الفاسدة...".
- "ومن الأخبار الواهية...".
- "ويناسب هذا أو قريب منه...".
- "ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين..."...........