- مفهوم المنطق عند الشاطبي وابن خلدون:
نادرة هي المواضع التي خصصها كل من الشاطبي وابن خلدون للكلام في علم المنطق، وهي مواضع متناثرة ومبثوثة في تآليفهما "الموافقات" و"الاعتصام" وكذا "المقدمة"، إلا أن ما يمايز بينهما هو أن ابن خلدون أفرد علم المنطق بفصل خاص على قلته واختصاره الشديد، وهو الفصل السابع عشر من الجزء المخصص للعلوم وأصنافها من كتاب المقدمة، حيث طرقها بالتعريف والبيان، كما منح رديفته الفلسفة فصلا آخر، كما ذكر معـاصره ابن الخطيب في كتابه "الإحاطة" كلاما يدل على عنايته بعلم المنطق، دراسة وتأليفا لم يصلنا منه شيء، فقال: "..ولخص كثيرا من كتب ابن رشد وعلق للسلطان أيام نظره في العلوم العقلية تقييدا مفيدا في المنطق.."
>[1] ، أما معاصره الشاطبي فاكتفى بإشارات قليلة عرض فيها ذكر المنطق إما في معرض الردود والنقود والمقارنات، كما حصل في الفصل الأخير من لواحق كتاب الاجتهاد
[ ص: 76 ] من "الموافقات"، أو على سبيل الارتباط والاشتباه كما نلحظ ذلك في محاوراته ومحادثاته عن مسائل التحسين والتقبيح والتعليل والمعتزلة.
وبناء عليه، فليس سهلا على متتبع إنتاجات الشاطبي العلمية الظفر بتعريف خاص للمنطق على الرغم من حضور القول المنطقي والمتابعة العقلية عنده، فيما تشخص غالبا في عدد من المفردات المنطقية، كالعقل والرأي والنظر والاعتبار، والمقدمات والنتائج، والتعليل والسبب.
وهذا عكس ابن خلدون الذي يجعل لغالب موضوعاته حدودا وتعاريف لكلماتها المركزية، كعلم المنطق مثلا حينما قال: "هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعروفة للماهيات والحجج المفيدة للتصديقات"
>[2] .
فالمنطق عنده آليات ووسائل علمية يعتمدها المنطقي لمعرفة الصحة والصواب من البطلان والخطأ، سواء في الحدود والتعريفات لماهيات الأشياء المجردة، "بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التأليف لتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص"
>[3] ، ولإدراك الحجج والأدلة المستعملة في الدلالة على صدق الأنباء، "بأن يحكم بأمر على أمر، فيثبت له ويكون ذلك تصديقا، وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصـور؛ لأن فائـدة ذلك إذا حصل إنما هي معرفة حقائق الأشباه التي هي مقتضى العلم"
>[4] .
[ ص: 77 ]
ولا يعدو علم المنطق عند ابن خلدون وسيلة لخدمة العلوم المقصودة بالتعلم لغايات دينية ودنيوية، يقول: "اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وعلوم هي وسيلة آلية لهذه العلوم كالعربية والحساب، وغيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة، وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين"
>[5] ، فالمنطق يبقى في الأخير عند ابن خلدون:
- ماهيته: آلات وقوانين ووسائل.
- فائدته: تمييز الصحة من البطلان، والصواب من الخطأ.
- غرضه: معرفة الأشياء على حقيقتها وإدراك الحجج المفيدة المنتجة.
- غايته: خدمة العلوم المقصودة بالبحث والعلم والتي تعود بالنفع على الإنسان في كل حال.
لكن السؤال الذي يحضر بقوة بعد هذا الجرد، هو: هل هذا الفقر البادي على كتابات الإمام والعلامة في العناية بالمنطق وأبعاده له دلالات محصورة قراءتها في مواقف معادية منه، أم أن الأمر له اعتبار مغاير؟
[ ص: 78 ]