- موقف الإمام والعلامة من المنطق:
1- موقف الشاطبي من المنطق: /14
يمكن القول: إن العقل هو الأداة القطبية في الاشتغال على المنطق، لذلك فإن عادة ما يذكره الأصوليون ترميزا إلى الرأي والاجتهاد بالقصد الأصلي، وإلى المنطـق وفلسفتـه بالقصـد التبعي، ويقوم النظر في علم المنطـق عند أبي إسحاق على قاعدة منهجية أوردها في بدايات "الموافقات"، كما بث معناها غير ما مرة في كتاباته، وهذه القاعدة هي: "إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيـكون متبوعا، ويتأخر العقـل فيـكون تابعا، فـلا يسـرح العقـل في مجـال النـظر إلا بقـدر ما يسرحه النقل"
>[1] .
وهذا النص على وجازته، يلخص بعمق موقف الإمام الشاطبي من الاعتبارات العقلية والمنطقية في المباحث الشرعية والعـلوم النقلية عامة، وهذا ما يفسر قول الدكتور أحمد الريسوني فيه بأنه متأثر بالنظرة الأشعرية
>[2] في هذه المسـألة، وبالخصـوص إدراك المصـالح الإنسـانية بإعمـال النظر العقلي، أو ما اصطلح عليها في علم الكلام بمسألة التحسين والتقبيح.
[ ص: 79 ]
ولعل المطلع على النظر الثاني من كتاب لواحق الاجتهاد من الموافقات، سيجد ما يغنيه في هذا الباب عن غيره، فقد فصل فيه بشكل واضح العلل المؤثرة في ترك إعمال الأصول المنطقية واستثمارها، من ذلك "أن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلق في الأكثر؛ لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية، ومراعاة علم المنطق قي القضايا الشرعية مناف لذلك"
>[3] .
وقد أدرج لذلك مثالا، يبسط فيه موقفه ويبين فيه رأيه في المسألة، مشددا على ضرورة الفصل يبن الأسس المنهجية المنطقية والقضايا الشرعية، والأقرب في التمثيل للمسألة، حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) >[4] ، الذي اعتمده بعض المتحمسين لعلم المنطق في الاستدلال على إعمال أصولهم، وتخريج مسالكهم المنطقية، المتعلقة بالمقدمات والنتائج في القياس المنطقي ومنهج الاستقراء، فقال: "ومن هنا يعلم ما قاله المازري في قوله، عليه الصلاة والسلام:
( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) قال: فنتيجة هاتين المقدمتين كل مسكر حرام، قال: وقد أراد بعض أهل الأصول أن يمزج هذا بشيء من علم أصحـاب المنطـق، فيقول: إن أهل المنطق يقولون لا يكون القياس ولا تصح النتيجة إلا بمقدمتين، فقوله
( كل مسكر خمر ) مقدمـة لا تنتج بانفرادها شيئا، وهذا إن اتفق لهذا الأصولي ههنا، وفي موضع أو موضعين في الشريعة، فإنه لا يستمر في سائر أقيستها، ومعظم الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك، ولا يعرف من هذه الجهة، وذلك، أنا لو
[ ص: 80 ] عللنا تحريمه، عليه الصلاة والسلام، التفاضل في البر بأنه مطعوم كما قال الشافعي، لم نقدر أن نعرف هذه العلة إلا ببحث وتقسيم، فإذ عرفناها فللشافعي أن يقول حينئد: كل سفرجل مطعوم وكل مطعوم ربوي. فتكون النتيجة السفرجل ربوي، قال ولكن هذا لايفيد الشافعي فائدة، لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى، فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها عن مذهبه، فجاء بها عـلى هذه الصيغة. قال: ولو جاء بها على صيغة أراد مما يؤدي منه مراده لم يكن لهذه الصيغة مزية عليها. قال وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابا أراد أن يرد فيها أصول الفقه لأصول علم المنطق"
>[5] .
فكلام المازري هذا ينسجم مع رأي الشاطبي، كما أنه يؤكد أمورا أساسية في هذا الصدد:
فقد يقع توافق واضح بين المقولات المنطقية وغيرها من القضايا الشرعية، وهذا أمر جد وارد في موضع أو موضعين أو أكثر، لكن ذلك أضعف من أن يعتبر في عداد القواعد والمبادئ التي تتلقى بالقبول التام، أو بمثابة امتداد لتلك الأصول الفلسفية والمنطقية واستمرارا لمنهجها، كما يزعم بعض الباحثين
>[6] .
[ ص: 81 ]
ويذهب بعض آخر إلى أن أثر المنهج الأرسطي على العرب كان مهما جدا، فقد ساعدهم على بناء العلوم التي تعتمد على الملاحظة
>[7] ، غير أن هذا القول ليس على إطلاقه؛ لأنه لو كان كذلك لتم إسقاط الاستقراء الناقص من مناهج البحث عند مفكري الإسلام، الذي لم يعتبره أرسطو من ضمن القواعد العلمية في معرفة الحقائق، وعليه فإن ورود ذلك التلازم أو التوافق في بعض الحقول العلمية، لا يعني بالضرورة حصولها في كل المواطن؛ لأن الأقيسة الشرعية والكليات الاستقرائية ليست كالأقيسة المنطقية والاستقرائيات المنطقية، لذلك "فقد أدرك مفكرو الإسلام تمام الإدراك أنه لابد من وضع منهج في البحث يخالف المنهج اليوناني، حيث إن هذا المنهج الأخير إنما هو تعبير عن حضارة مختلفة، وتصور حضاري مختلف، ويثبت هذا الحملة العنيفة التي قام بها علماء الاسلام على -منطق يونان- وتاريخ هذه الحملة العنيفة واضح وضوحا بالغا في كتابـات المسـلمين"
>[8] ، وما حصـل من توافق أحيانا بين المنهجين في بعض المباحث العـلمية لا يستمر بالقوة في سائر الأقيسة، للاختلاف المنهجي بينهما.
[ ص: 82 ]
إضافة إلى أن جل مناهج الأقيسـة الشرعية لا يتبع فيهـا هذا السبيل، ولا تعرف أحكامها ونتائجها من نفس الجهة التي يقوم عليها مناهج الفلسفة المنطقية، كما تبين ذلك مع مثال السفرجل وعلاقته بربا التفاضل عند الشافعي.
وإلى هذا المعنى أشار الباجي في رد زعمهم أن القياس لا يصح، ولا يتم من مقدمة واحدة، وأن المقدمة الواحدة قد تنتج، فقال: "وقد زعمت الفلاسفة أن القياس لا يصح ولا يتم من مقدمة واحدة ولا يكون فيها نتيجة، وإنما ينبني القياس من مقدمتين فصاعدا، إحداهما قول القائل "كل حي قادر" والثانية "كل قادر فاعل". والمقدمة عندهم مقال موجب شيئا لشيء أو سالب شيئا عن شيء. فالموجب كقولنا كل حي قادر، والسالب كقولنا كل حي ليس بميت. وهذا ليس من القياس بسبيل ولا به تعلق"
>[9] .
وقد احتفظ الشاطبي بنفس الموقف في "الاعتصام"، مفندا تصوراتهم وتعاملاتهم حيال الأصول الشرعية، معتبرا ذاك تعسفا في استعمال العقل، بقصد تطويعه وفق مقتضيات أصولهم، فقال: "فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فلقفوها أو تلقفوا منها، فأرادوا أن يخرجوه عن مقتضى أصولهم، وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا، وليس الأمر كما زعموا"
>[10] .
بعد تحرير النظر في موقف الشاطبي من الاعتبار المنطقي ضمن القضايا الشرعية، يجدر البحث في الجواب عن سؤالين مهمين:
[ ص: 83 ]
- هل موقف الشاطبي سالف البيان، مأخوذ على إطلاقيته، أم تتعلق به بعض الاستثناءات العلمية؟
- وما هي حدود الاعتبار المنطقي لبعض المسائل المنهجية عنده؟