- شروط الاعتبار المنطقي عند الشاطبي:
يعود الاختيار المنهجي في الاشتغال على بعض قواعد وآليات المنطق عند أبي إسحاق في حقيقته إلى التكامل المنهجي بين أساليب البحث والنظر، لا إلى ارتباط الإمكان المطلق القائم على أسـاسي الضرورة والـكلية. ولذلك نجده لا يمانع في استثمار بعض آليات النظر العقلية، كالاستقراء وإجراء الأمر وفقها، وذلك عبر شرطين:
الأول: كونه منهجا في القطع والعلم: أي لما كان المنهج العقلي أحد المناهج المعتمدة في الاستدلال، وتحصيل اليقين والقطع، فإنه لا ممانعة في استثماره واستخدامه أيضا في الشرعيات ما دام موافقا لها، ولا يخرم أصلا من أصولها، وقد أشار الإمام إلى هذا الأمر بعد إيراده لبعض الاعتراضات على إعمال الأدلة العقلية وفي مقدمتها الاستقراء، فقال: "فإن قيل اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين من أوجه: أحدهما: أن ذلك إنما ممكن في العقليات لا في الشرعيات، لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل في التركيب، ومتفقة لا تقبل الاختلاف، فيحكم العقل فيها على الشيء بحكم مثله شاهدا وغائبا؛ لأن فرض خلافه محال عنده، بخلاف الوضعيات فإنها لم توضع وضـع العقـليات، وإلا كانت هي بعينها، فلا تكون وضعية، هذا خلف، وإذا لم توضع وضعها، وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله، والجمـع بين الشيء ونقيضه، لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص".
فكان رده لهذا الاعتراض، غير ممانع في إعمال ذلك الاستدلال في المجال الشرعي معتبرا "أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات. والدليل على ذلك قطع السلف به في مسائل كثيرة كما تقدم التنبيه عليـه، فإذا وقع مثله، فهو
[ ص: 87 ] واضح في أن الوضع الاختيـاري الشرعي مماثل للعقـلي الاضطراري، لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع"
>[1] .
فيظهر إذن، أن الإمام الشاطبي وضع بعض الضوابط لإمكانية العمل بالدليل العقلي في الموارد الشرعية، ومنها:
- حصول القطع به في كثير من المسائل الشرعية.
- اعتماد السلف له في تخريجاتهم الفقهية واجتهاداتهم الأصولية.
- استثماره فيما كان موافقا للفهم من قصد الشارع.
الثاني: تركيبا على السمع وتحقيقا للمناط: لا يمكن للاعتبار المنطقي أن يكون لدى الإمام الشاطبي على سبيل الابتداء والاستقلال في استثماره، بل يمكن توظيف أدلته وآلياته العقلية وفقا لتصور تركيبي على الأصول السمعية، أو إسنادي في الوصول إلى العلم أو تحقيقا لمناطها، لكونها غير مناسبة للنظر في الأمور الشرعية بذاتها الكلية. وتلك هي دعوة الإمام الغزالي لطالب العلم "أن لا يدع فنا من فنون العلم ونوعا من أنواعه إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على غايته ومقصده وطريقته"
>[2] ، فكل آلية عقلية كانت أو منطقية، تخدم الهدف والمقصد الشرعي لا حرج في استثمارها ما دامت غايتها نبيلة وعلمية مناسبة للأصول الشرعية، وهذا ما يفسر اشتغال أبي حامد على آليات المنطق لرد القضايا والتفسيرات المنطقية
>[3] .
[ ص: 88 ]
وقد أكد الإمام الشاطبي تصوره هذا في إحدى مقدماته قائلا: "الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنـما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، ومحققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع، وهذا مبين في علم الكلام"
>[4] .
ومن أهم ما يقصده بالأدلة العقلية في هذا المجال، دليل الاستقراء المستعمل حين ينعدم الدليل القطعي في النقد والاستدلال، يقول: "إنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع..."
>[5] .
وبذلك يتضح أنه رغم الموقف المبدئي للإمام الشاطبي من المنطق والفلسفـة، فإنه لا يرى مانعا من تعضيـد الاستـدلال وتقويته بأدلة عقلية لها سمات المنطقية والاعتبـار العقـلي، بالإضافة إلى الأصل النقلي، وهذا المذهب لا يقدح في كلية الموقف الثابت
>[6] .