2- شروط الاعتبار المنطقي عند ابن خلدون:
الذي يظهر من خلال تتبع مواقف الرجلين أن العلامة ابن خلدون أكثر تحفظا على سبيل الاحتياط في التعامل مع الآليات المنطقية وتفاصيلها، وإن لم يمانعا، كلاهما، من استثمارها بالشكل الذي يخدم العلوم المقصودة في غاياتها، وتتمثل أهم تجليات تحفظ ابن خلدون في اشتراطه المتراكم لعدد من الضوابط، منها:
- الامتلاء من الشرعيات: إن كان لابد من النظر في آليات علم المنطق ومن ثم استثمارها في الاستدلالات العلمية والاشتغال عليها في البيان
[ ص: 89 ] والإيضاح، فينبغي على المقبل عليها أن يكون ريانا من علوم الشريعة ابتداء، ومطلعا على مطالب التفسير والفقه وما ارتبط بهما من علـوم الملـة، وذلك ما يقصده الشاطبي بشرط التركيب على السمع وتحقيقا للمناط حتى يكون حفظا وصونا له، يقول ابن خلدون: "وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والإطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل أن يسلم لذلك من معاطبها"
>[1] .
- آلية المنطق: يصنف علم المنطـق عند ابن خـلدون ضمن العلوم الآلية أو الوسائل الخادمة للعلوم الغائية المؤثرة في العمران، لذلك فإن درجة الاحتفاظ بتوسعة الكلام فيها وتفريع مسائلها وتدقيق النظر فيها يوحي بالتقصيد إلى غائيتها، وهذا أمر لا يليق، مما يتطلب الاقتصار في النظر فيها على بعدها الآلي الوسيلي فقط، يقول: "وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالها فلا ينبغي أن ينظر فيهـا إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسـع فيها الكلام، ولا تفرع المسائل؛ لأن ذلك مخرج لها عن المقصود، إذ المقصـود منها ما هي آلة له لا غير"
>[2] ، ثم لأن إطالة النظر فيها كذلك ملهاة عن غيرها، "وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات، لطول وسائلها، مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة"
>[3] .
- عدم الاستبحار فيها: من شروط الاشتغـال المنطـقي كذلك عند ابن خلدون تعلم واقتناص المآخذ الموفية بالغرض في البيان والاستدلال، في باقي العلوم المحسوبة على خدمة العمران البشري، دون تعميق النظر في تفاصيلها التي
[ ص: 90 ] تنأى بصاحبه إلى ما هو أبعد عن الغاية والمقصد، لذلك نجده بعد توصيف المنطق ووضعه في الحال المناسب للعمران البشري، يؤكد ضرورة هذا الحسبان، قائلا: "يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها، وينبهوا المتعلم على الغرض منها، ويقفوا به عنده، فمن نـزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شـاء من المراقي، صعبـا أو سهلا، وكل ميسر لما خلق له"
>[4] . ويقول ابن تيمية، رحمه الله، في هذا الشان: "وهذا موجود بالاستقراء: أن من حسن الظن بالمنطق وأهله إن لم يكن له مادة من دين وعقل يستفيد بها الحق الذي ينتفع به، وإلا فسد عقله ودينه"
>[5] .
- التحرز من المعاطب: بالنظر إلى ما يفضي إليه كذلك من مزلات ومعاطب، ينبغي التفطن لذلك مع التسلح بما يكفي من وسائل وآليات تجنبه الوقوع فيها، لذلك لا غنى للمطلع على علم المنطق والفلسفة والمقدم عليهما من التحرز والاحتياط: "...مع الإطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت، فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والإطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل أن يسلم لذلك من معاطبها"
>[6] ؛ "فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك، وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الأمر الصناعي جملة، واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه"
>[7] .
[ ص: 91 ]