2- كلية النقد: (نقد الفهوم/ نقد الروايات):
يعتبر الخطاب النقدي من أهم الكليات الكبرى التي تصوغ المعرفة الأصـولية عند أبي إسحـاق، والمعرفة التاريخيـة عند ابن خلدون، ويعود هذا بالأساس إلى الظرف التاريخي الذي نشأ فيه الرجلان، لكن ماهي تجليات هذا الخطاب عندهما؟
يمكن النظر إلى ذلك من خلال مستويين:
المستوى الأول: تنقيح المعرفة الأصولية والتاريخية:
فبالنسبة للمعرفة الأصولية فإن السياق التاريخي الذي ظهر فيه الإمام الشاطبي كان فيه الدرس الأصولي مثقلا بآثار عدد من العلوم الدخيلة عليه، وعلى رأسها علم الكلام وعلم المنطق.
فالأول: أثره موضوعي طال مباحث جوهرية في علم الأصول، كمسألة التعليل مثلا.
والثاني: أثره منهجي لحق بعض القواعد والمسالك العلمية في الاستدلال والنظر، كقواعد برهان الخلف والقياسات المنطقية، ودليلي البرهان والعلة.
فعلم الكلام قد بت في شأنه أبو إسحاق منذ المقدمة الرابعة، ويعتبره متطفلا على أصول الفقه لا يليق إدراجه ضمن المباحث الأصولية، وقد حسم هذا التداخل عبر شرط الصفة العملية التطبيقية للمباحث المندرجة في الأصول، يقول: "وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خـلاف في فرع من فروع الفقـه، فوضع الأدلة على صحـة بعض المذاهب أو إبطاله عارية أيضـا، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير والمحرم المخير،
[ ص: 118 ] فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل، وإنما اختلفوا في الاعتقاد بناء على أصل محرر في علم الكلام، وفي أصول الفقه له تقرير أيضا وهو: هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفات الأعيان، أو إلى خطاب الشارع؟ وكمسألة تكليف الكفـار بالفروع عند الفخر الرازي، وهو ظـاهر، فإنه لا ينبنـي عليه عمل، وما أشبه ذلك من المسائل التي فرضوها مما لا ثمرة له في الفقه"
>[1] .
وعلم المنطق باعتباره أدوات ومناهج خاصة في التفكير والاستنباط، وإنتاج المعرفة، فقد وقف منه موقفا رافضا؛ لأنه "لا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المطالب الشرعية"
>[2] ، إلا أنه لا يعارض استثمار بعض القواعد المنطقية بشكل راشد، يخدم العلوم الشرعية، وفق القواعد الشرعية، يقول: "واعلم أن المراد بالمقدمتين ههنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق الأشكال المعروفة، ولا على اعتبار التناقض والعـكس وغير ذلك، وإن جـرى الأمر على وفقها في الحقيقة فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح؛ لأن المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطـلوب على أقرب ما يكون، وعلى وفق ما جاء في الشريعـة، وأقرب الأشـكال إلى هذا التقـرير ما كان بديهيا في الإنتاج، أو ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي"
>[3] .
وهذا ما يفسر اعتماده على القواعد المنطقية في استدلالاته الأصولية على طول كتاب "الموافقات" بشكل ملفت للانتباه.
[ ص: 119 ]
أما بالنسبة للمعرفة التاريخية فإن هم ابن خلدون الأساس هو تنقيح الخطاب التاريخي مما علق به من أكاذيب وخرافات وأخبار غير صحيحة تم دسها لأسباب كثيرة يذكرها في عدة مناسبات، يقول، رحمه الله: "وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسبـاب الوقـائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضـوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل"
>[4] .
المستوى الثاني: تصحيح النظر الأصولي والتاريخي:
إن أهم انشغالات أبى إسحاق العلمية تصحيح النظر الأصولي وذلك: "من جهة البحث في قطعية الأصول التي ألفـاها في عداد القواعد الظنية، التي لا تنتج معرفة فقهية من اشتداد الخلاف حول أغلبها بين الأصوليين من جهة، وإغفال هذه المسالك العلمية للقطع بالأصول من جهة ثانية.
وهو الأمر الذي يفسر تمهيده الموافقات بعبارته القوية التأكيدية "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية.."
>[5] ، ليتبعها بعد ذلك بسلسلة من الأدلة العلمية الحاسمة في المسألة، مع مراجعة الآراء الأصولية فيها.
[ ص: 120 ]
وقد استعان أبو إسحاق في تصحيح الفكر الأصولي بالتنبيه على المحدد المقصـدي في تسـديد الأنظار، والتخفيف من الخلاف بين العلماء، قال، رحمه الله: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها"
>[6] .
والأمر نفسه شغل ابن خلدون في اختصاصه التاريخي، بإمعانه النظر في عدد من القواعد والمبادئ المؤسسة لعلم التاريخ والاستدلال عليها بأمثلة حية، يقول ابن خلدون مثلا بعد الاستدلال على قانون "أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم" بأمثلة كثيرة، لم يراع ذلك الأساس: "وأمثال ذلك كثير والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها"
>[7] .
وبعد فراغه من الاستدلال على الدورة الحضارية للدولة من انتقالها من البداوة إلى الحضارة، يقول: "...فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله، فاعتبره وتفهمه وتأمله تجده صحيحا في العمران، والله خير الوارثين"
>[8] .