المدخل الثالث
فقه السياسة الشرعية ضمن سياقه التاريخي
لما كان موضوع (السياسة الشرعية عند الجويني) هو المحور الأساس لهذا البحث، كان من المناسب التعرض لفقه السياسة الشرعية ضمن سياقه التاريخي؛ لنستبين مسيرة هذا الفقه، ونقف على أهم أعلامه، والمؤسسين لمرتكزاته. ومن هنا كان هذا المدخل مخصصا للحديث عن أبرز أعلام السياسة الشرعية قبل الجويني.
ولا شك، أن فقه السياسة الشرعية نشأ بنشأة الإسلام، وكانت تطبيقاته مرافقة لمراحل انتشاره، وطبق على أرض الواقع قبل أن يصنف في الكتب. فهذا أمر لا مراء فيه، وهو خارج عن مطلوب هذا المدخل.
أستطيع أن أرصد على وجه الإجمال -فيما كتب في فقه السياسة الشرعية -ثلاث مراحل أساس:
المرحلة الأولى:
مرحلة التمييز والاستقلال، حيث تم في هذه المرحلة الحديث عن أبواب من فقه السياسة الشرعية بشكل منفصل ومستقل عن أبواب الفقه الأخرى، كالحديث عن الخراج، والأموال، والعلاقة بين الدولة الإسـلامية وغـيرها من الدول. ويذكر من كتاب هذه المرحلـة: الإمام أبو يوسف في كتابه "الخراج"، والإمام الفزاري في كتابه "السير"، والإمام محمد في كتابه "السير الكبير"، ويحيى بن آدم في كتابه "الخراج"، والقاسم بن سلام في كتابه "الأموال"، وابن زنجويه في كتابه "الأموال".
[ ص: 32 ] المرحلة الثانية:
مرحلة التأصيل والتقعيد، حيث تم في هذه المرحلة تأصيل فقه السياسة الشرعية، وتقعيد مباحثـها، وإبراز فقهها. تم ذلك على يد أعلام، منهم: قدامة بن جعفر في كتابه "الخراج وصنعة الكتابة"، والإمام الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية"، وبالطبع فإن الإمام الجويني من أعلام هذه المرحلة.
المرحلة الثالثة:
مرحلة الشرح والتطبيق، حيث تم في هذه المرحلة شرح فقه السياسة الشرعية، وتطبيقه على الواقع. ومن أهم أعلام هذه المرحلة ابن جماعة في كتابه "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام"، وابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية"، وابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية".
وليس من شك، فإن جهود الفقهاء المتقدمين لتأصيل فقه السياسة الشرعية قد بدأت في مراحل مبكرة من تدوين الفقه عموما، وأن الفقهاء المتقدمين قد اهتموا في هذا الباب غاية الاهتمام، فأفردوا له مصنفات خاصة، فضلا عن بحث جملة من مسائله في كتبهم الفقهية العامة.
وقد أرشد البحث في هذا الصدد إلى أن الفقهاء المتقدمين الذين أصلوا لفقه السياسة الشرعية، كانوا على صلة بمشاكل عصرهم، ووقائع زمانهم، فلم يأت تأصيلهم لهذا الفقه منبتا عن واقعهم، ولا مجافيا لمتطلبات نوازلهم.
فوجدنا أبا يوسف (182هـ) قد أصل للمسألة المالية عموما، وقد كانت الدولة الإسلامية في أوج قوتها الاقتصادية. واهتم بأمرين على وجه
[ ص: 33 ] الخصوص: أولهما: مراقبة رجال الدولة ومحاسبتهم، مخافة أن يقع الظلم على الرعية. ثانيهما: رعاية أهل الذمة من أن يظلموا أو يظلموا.
وكانت حركة الفتح الإسلامي في عصر الإمام الفزاري (186هـ) قد نمت وازدادت، ومن ثم أخذ ليؤسس لفقه العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، ويؤسس لطرق نشر الدعوة الإسلامية.
وجاء الإمام محمد (189هـ) ليؤصل فقه العلاقات الدولية، بعد أن أصبحت العلاقة مع (الآخر) أمرا واقعا، لا يمكن تجاهله. فأصل لكثير من العلاقات الدولية على أساس المصلحة الشرعية.
ثم جاء أبو عبيد (224هـ) ليوسع القول بفقه السياسة المالية للدولة الإسلامية، بعد أن انتشرت الفتوحات الإسلامية، ودخل كثير من الناس في دين الله أفواجا، وتواردت الكثير من الأموال على بيت مال المسلمين، فكانت الحاجة ملحة لتأصيل مسائل الفقه المالي.
أما الماوردي (450هـ) فقد وجد في عصر ضعف فيه منصب الخلافة، وتكالبت عليه الأعداء من الداخل والخارج، فكانت الفرق الباطنية تعمل وسعها من الداخل لتقويض دعائم الخلافة، وكانت دولة الروم من الخارج تتحين الفرصة تلو الأخرى للنيل من منصب الخليفة. فجاء الماوردي في هذا الظرف العصيب ليؤصل لمسألة الخلافة والإمامة، وليؤصل كذلك للعديد من فقه السياسة الشرعية المتعلق بالمؤسسات السياسية والإدارية والاجتماعية التي تقوم على أساسها دولة الإسلام
>[1] .
[ ص: 34 ]