المسألة الأولى: رعاية أمن المجتمع:
يولي الجويني عناية خاصة لأمن المجتمع، ويجعله المهمة الأساس الموازية لمهمة حفظ الدين. ويفرع هذه المهمة إلى أربعة فروع رئيسة، هي: حفظ أمن الدولة الداخلي، والفصل في الخصومات والمنازعات، وإقامة العقوبات على المخالفين، وسد حاجات الفقراء والمعوزين.
ينطلق الجويني في تأصيل فقه أمن المجتمع من قاعدة أساسية، مفادها: أن "الأمن والعافية قاعدتا النعم كلها، ولا يهنأ بشيء من دونها"
>[1] . وهذه قاعدة صحيحة مطردة، مستندها الشرعي قوله تعالى:
( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) (قريش:4). ويؤيد هذه القاعدة واقع الناس في كل زمان ومكان، فحيثما ساد الأمن وانتعش الاقتصاد، ساد الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وحيثما انعدم الأمن وتردى الاقتصاد عم الاضطراب الاجتماعي، وانعدم الاستقرار السياسي.
وأمن المجتمـع - بحسب الجويني - يكون من جهتين: أمن داخلي، وأمن خارجي.
أما الأمـن الداخـلي فيكون على مستويـين: مستوى كلي، ومستوى جزئي.
[ ص: 122 ]
والواجب على الإمام على المستوى الكلي، تتبع المفسدين في الدولة، وملاحقة المتربصين بها سوءا، وقطع شرهم، وقتال البغاة الخارجين عن طاعة الجماعة، والمنتهكين لحرمة القانون العام ومحاربة فسادهم، وقتال أهل البدع والأهواء حتى يعم الأمن والاستقرار دولة الإسلام
>[2] .
وتأسيسا عليه، يحذر الجويني من الفرق الضالة التي نشأت في المجتمع، ويدعو إلى الأخذ على يدها، قبل أن يستفحل خطرها، ويتطاير شررها، يقول: "قد نشأ ... ناشئة من الزنادقة والمعطلة، وانبثوا في البلاد، وشمروا لدعوة العباد إلى الانسلاخ عن مناهج الرشاد ... وفشا في عوام المسلمين شبه الملحدين، وغوائل الجاحدين، وكثر التخاوض في مطاعن الدين ... فإذا انضم إلى ما هم مدفوعون إليه من البلوى، دعوة المعطلة في السر والنجوى، خيف منه انسلال معظم العوام عن دين المصطفى، ولو لم تتدارك هذه الفتنة الثائرة، أحوجت الإيالة إلى إعمال بطشة قاهرة، ووطأة غامرة"
>[3] .
ويلتحق بهذا المستوى الكلي من الأمن بناء المرافق العامة التي تلبي حاجات الناس في المجتمع، كالمدارس، والمستشفيات، وتمهيد الطرق وتأمينها، فإذا وجد ذلك "اتسق أمر الدين والدنيا، واطمأن إلى الأمنة الورى"؛ ولأجل هذا المعنى، يفتي الجويني (نظام الملك) بتأجيل الحج إلى حين أن يمهد السبل، ويعمر المدن، ويؤمن لها الخدمات الأساسية. ويعتبر أن قيام الإمام
[ ص: 123 ] بأداء شعـيرة الحج قبل القيـام بالواجبات الاجتماعية أمر محذور
>[4] ؛ إذ إن ما هو عام من المصالح أولى بالاعتبار، وأجدر بالاهتمام.
ومما يصب في جانب الأمن الداخلي على المستوى الكلي أيضا، أن يعمل ولي أمر المسلمين على تشكيل جهاز أمني (مخابرات)، مهمته تزويد ولي الأمر بالأخبار عما يجري في أنحاء الدولة، بحيث يكون ولي الأمر على بينة مما يجري في دولته، ما يؤدي إلى ضبط الأمور، واطمئنان الناس. يؤكد الجويني هذه المهمة في أثناء خطابه (نظام الملك)، يقول: "فإن النظر في أمور الرعايا يترتب على الاطلاع على الغوامض والخفايا، وإذا انتشرت من خطة المملكة الأطراف ... امتدت أيدي الظلمة إلى الضعفة بالإهلاك ... والتيقظ والخبرة أس الإيالة، وقاعدة الإمرة، وإذا عمى المعتدون أخبارهم، أنشبوا في المستضعفين أظفارهم، واستجرؤوا ثم على الاعتداء ... وقد يفضي الأمر إلى ثوران الثوار في أقاصي الديار"
>[5] .
أما على المستوى الجزئي، فالمطلوب نصب القضاة لفصل الخصومات بين الناس؛ إذ إن ذلك من أهم الأمور التي تحقق الأمن في المجتمع، ويحفظ تماسكه وبنيانه. ويلحق بهذا الجانب إقامة العقوبات على الأفراد المتعدين للحدود، والمعتدين على الحقوق.
[ ص: 124 ]
ورعاية الأمـن الخـارجي لا تقـل أهمية من رعاية الأمن الداخلي؛ إذ كما أن الأمن الداخلي يحفظ الدولة ويؤمن استقرارها داخليا، فإن الأمن الخارجي يقوم بالدور نفسه خارجيا، فكل منهما مكمل للآخر في المحصلة، والعلاقة بينهما علاقة تكاملية وتلازمية. وقد كان الجويني متنبها لأهمية حفظ هذا الجانب من الدولة؛ ومن هنا جعل من أهم واجبات الإمام "أن يحصن أساس الحصون والقلاع، ويستذخر لها بذخائر الأطعمة، ومستنقعات المياه، واحتفار الخنادق، وضروب الوثائق، وإعداد الأسلحة والعتاد، وآلات الصد والدفع، ويرتب في كل ثغر من الرجال ما يليق به".
ولم يكتف الجويني بالتأكيد على أهمية حفظ الثغور الخارجية للدولة، بل بين أيضا بعض التفاصيل العسكرية، التي تساعد على حفظ الدولة خارجيا؛ فذكر أن "المعتبر في كل ثغر أن يكون بحيث لو أمه جيش، لاستقل أهله بالدفاع إلى أن يبلغ خبرهم الإمام، أو من يليه من أمراء الإسلام. وإن رأى أن يرتب في ناحية جندا ضخما، يستقلون بالدفع لو قصدوا ... فيقدم من ذلك ما يراه الأصوب والأصلح والأقرب إلى تحصيل الغرض"
>[6] .
ولم يتوقف الجويني في مفهوم الأمن عند معناه الضيق المقتصر على منع الاضطرابات والفتن، بل وسع من هذا المفهوم ليشمل جوانب أخرى،
[ ص: 125 ] كوحدة الأمة فكريا وسياسيا وعقديا واجتماعيا؛ وهذا ما يلحظ من قوله: "والغرض الأعظم من الإمامة جمع شتات الرأي، واستتباع رجل أصناف الخلق على تفاوت إرادتهم، واختلاف أخلاقهم ومآربـهم وحالاتهم ... فإذا لم يكن الناس مجموعين على رأي واحد، لم ينتظم تدبير، ولم يستتب من إيالة الملك قليل ولا كثير"
>[7] .