المسألة الحادية عشرة: فائض بيت المال:
صورة المسـألة، أن الإمام إذا أعطى كل ذي حق حقه، وفضل في بيت المال مـال، فمـا سبيـل هذا المال؟ هل يبقى في بيت المال على سبيل الاحتياط، أم يوزع في مصالح المسلمين؟ يذكر الجويني قول طوائف من السلف: إن الإمام إذا أعطى كل ذي حـق حقه، وفضل بعد ذلك شيء في بيت المال، فإن المتعين حينئذ على الإمام تفريق ما فضل من أموال بيت مال المسلمين كل سنة على مصالح المسلمين، وينتظر للسنة الجديدة أموالها. وأصحاب هذا الرأي يستدلون لمذهبهم بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفعل الخلفاء الراشـدين، رضي الله عنهم، من بعده، حيث إنهم لم يكونوا يدخرون من فاضل أموال بيت المال شيئا،وإنما كانوا ينفقونها في وجوه مصالح المسلمين.
بينما يرى الجويني "أن الحاجات إذا انسدت، فاستمكن الإمام من الاستظهار بالادخار، فحتم عليه أن يفعل ذلك". ويستدل لرأيه بدليل قطعي، حاصله أن هذه المسألة تدخل في باب الحفاظ على أمر كلي، وهو
[ ص: 144 ] حفظ دولة الإسلام، والسبيل لذلك لا يحصل إلا بالاستعداد بالعدة والعتاد، ما يحتم على الإمام أن يكون عـلى أهبة الاستعداد؛ إذ إن طروق الطوارق لا يؤمن جانبها، ونزول النوازل لا يعلم وقتها؛ فكان لزاما الاستعداد بالمال والعتاد، والادخار وسيلة لذلك. وأيضا، فإن الإمام مطالب بأن يتحرى للأمة ما هو الأصلح لأمرها، والأصلح للأمة أن يدخر لها الإمام فاضل بيت المال؛ ليواجه به الأزمات؛ إذ الاحتفاظ بفضلات الأموال "تنـزل من نجدة الإسلام، منـزلة السور من الثغور".
ويرد الجويني ما استـدل به أصحـاب الرأي الأول بجملة أمور، حاصلها: أن المال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهـد خلفـائه، رضي الله عنهم، لم يكن فاضلا عن الحاجة بحيث يمكن ادخاره. وأن المياسير من الصحابة، رضي الله عنهم، كانوا يبادرون مسرعـين لطلب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا ندبـهم لبذل أمـوالهم لتغطية نفقـات الجهاد. أما الأمر بعد فقد اختلف؛ إذ اتسعت دولة الإسلام، وأصبح كثير من المسلمين أشحة على أمـوالهم. وإذا لم يكن لهذه الدولة مال مدخر تستعين به في أوقات الشدة، فإن أمرها سيؤول إلى الزوال والفناء، ما يتنافى مع ما شرعت الإمامة لأجله، فكان الادخار مطلبا متعينا
>[1] .
[ ص: 145 ]