المسألة الثانية عشرة: الحكم إذا نفدت الأموال من بيت المال:
يذكر الجويني أن هذه المسألة أهم مسائل الفقه المالي، المتعلق بأبحاث السياسة الشرعية. وصورة المسألة، أن تنفد الأموال من بيت مال المسلمين، وتقوم حاجات وأمور تستدعي وجود أموال لدفعها أو رفعها، وكان الأمر لا يحتمل التأجيل والانتظار. ويؤصل لها وفقا لأصلين:
أولهما: أن جنود الإسلام مندوبون لحمـاية دولته والذب عنها، وإذا لم يكن ثمة أموال تلبي احتياجاتهم، وتغطي نفقاتهم، فإن الأمر سيؤول إلى ضعفهم، وضياع الدولة.
ثانيهما: حرمـة استباحـة أموال المسـلمين، وحرمة مـد يدي الإمام إليها.
وتأسيـسا على هـذين الأصلين، يبني الجويني الحكم الذي ينبغي للإمـام أن يعمـل به، حال نفاد الأموال من بيت المال. ويفترض هنا صورا ثلاث:
الأولى: أن يطأ أهل الكفر ديار الإسـلام، وفي هـذه الحال يجب على الأغنياء "أن يبذلوا فضلات أموالهم ... حتى تنجلي هـذه الداهية"، ولا يجوز التواني عن هـذه المهمـة، وهذا باتفاق حملة الشريعة، والأموال هنا لا قيمة لها ولا اعتبار، إذا كان تهديد أهل الكفر قد طال ديار الإسلام وأهله؛ لأن مقصد حفظ الدين ومقصد حفظ النفس مقدم على مقصد حفظ المال.
[ ص: 146 ]
الثانية: أن تقوم دلائل تدل على عزم أهل الكفر مهاجمة ديار الإسلام، والحكم في هذه الحال، أنه "لا يحل في الدين تأخير النظر للإسلام والمسلمين ... والدفع أهون من الرفع، وأموال العالمين لا تقابل وطأة الكفار في قرية من قرى الديار". فالمتعين هنا أيضا حمل الأغنياء على الإنفاق من أموالهم، لدفع ما دلت القرائن على وشك وقوعه.
الثالثة: ألا يخشى من أهل الكفر هجوم، لكن القيام بأمر الجهاد يستدعي مزيد استعداد، ولو لم يمد القائمون على حماية دولة الإسلام بالمال، لأدى الأمر إلى وقف الجهاد؛ فهل يلزم الإمام أن يكلف أصحاب الأموال دفع النفقات المستلزمة لتأمين ذلك؟ الذي يقطع الجويني به في هذه الصورة أن على الإمام أن يكلف الأغنياء بذل فضلات أموالهم بما تقوم به كفاية القائمين على حماية الدولة؛ لأننا إذا "كنا لا نسوغ تعطيل شيء من فروض الكفايات، فأحرى فنونها بالمراعاة الغزوات"
>[1] .
والحاصل، أن الجويني يذهب إلى أن الأموال إذا نفدت من بيت مال المسلمين، فإن المتعين على الأغنياء بذل فضلات أموالهم؛ إما لرفع ما هو واقع، وإما لدفع ما هو متوقع.
[ ص: 147 ]