6- مظاهـر عولمة المعرفـة والبحث العلمي ..
ومتطلباتها التربوية:
المعرفة والمعلومات بطبيعتها ثقافة عالمية توحد الباحثين والعلماء في بحثهم عن الحقيقة دون النظر إلى أصولهم، وتتميز بقابليتها للانتشار والتبادل، وأضحت في العصر الراهن وفي ظل النظام الرأسمالي العالمي الجديد وتطور تقنية المعلومات والاتصالات والإعلام مصدرا للثروة والقوة والهيمنة؛ ذلك أن المعرفة حلت محل الموارد الأولية (الخام)، وغدت العامل الرئيس للإنتاج، وتحولت المعلومـات إلى سلعة استهلاكية يمكن تبادلـها وتوزيعها وتسويقها واستهلاكها.
ويقصد بعولمة المعرفة والبحث العلمي: تعميم الاستخدام المكثف للمعرفة (الصريحة) والمعلومات في شتى أوجه حياة المجتمعات، والمشاركة في توليد معارف جديدة من المعلومات المتوافرة، وسرعة نشرها وتبادلها بين أكبر عدد ممكن من الباحثين والدارسين والمهتمين دون الحاجة إلى انتقالهم، وبين مختلف الأوساط العلمية والبحثية، وإمكانية تعاونها في مختلف دول العالم لتطوير الحياة الإنسانية، وحل ما تعانيه المجتمعات من مشـكلات، وما يستلزمه ذلك من تعميم مناهج وأدوات البحث العلمي. أما المعرفة (الضمنية) فتحمل قيمة اقتصادية، ولا يسمح مالكوها بنشرها وتداولها.
[ ص: 135 ]
وثمة ارتباط قوي بين العولمة واقتصاد المعرفة بحكم أن اقتصاد المعرفة القائم على إنتاج المعرفة وتطبيقها، ونشر المعلومات واستهلاكها يقتضي عولمتها، ذلك أن تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي عن طريق تعميم الثقافة الاستهلاكية لتحقيق أعلى ربح ممكن يجعل العولمة تنتشر وتترسخ بالاستخـدام المكثف للعـلم والمعرفـة وتقنيات المعلومات والاتصالات، حيث صـارت التقنية والتقـدم المعرفي يمثل 80% من العامـل الكلي لنمو الإنتاجية
>[1] .
ومن أبرز مظاهر عولمة المعرفة والبحث العلمي في البلاد العربية ما يأتي:
- حدوث فجوة معرفية هائلة بين المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية؛ نتيجة لتدني قدرات الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي في إنتاج المعرفة وتطبيق ما هو متاح منها في أنشطة المجتمع، وتحولها إما لاستهلاك معرفة ومعلومات الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية، وإما لتكرار تقديمها في قوالب جامدة لا وظيفة حياتية لها، حتى أنه يندر -جدا- استخدام المعرفة المتوافرة في قطاعات المجتمع، لذلك ماتزال الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث العربية غير مؤهلة لتأسيس قواعد اقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة.
- عجز مؤسسات التعليم في البلاد العربية، وفي مقدمتها الجامعات والمعاهد، عن مواجهة تحويل المعرفة والعلم والثقافة إلى تجارة في السوق الرأسمالي العالمي، فلا هي قادرة على الاستجابة لمثل هذا التوجه، أو التخلي
[ ص: 136 ] عن أدوارها الوطنية التاريخية، ولا هي قادرة على إنتاج المعرفة المطلوبة للسوق، وتوفير نوعية المهارات والكفاءات المطلوبة وفق معاير السوق
>[2] .
- ضعف قدرة المؤسسات التعليمية الحكومية على منافسة المؤسسات التعليمية الخاصـة ولاسيمـا التي تتبناها الشركات المحلية، والشركات العابرة للحدود -الإقليمية منها والعالمية- التي باتت تهدد وجود المؤسسات التعليمية المحلية.
- عممت الثقافة المعولمة توجهات وأهداف وأدوات البحث العلمي والتطور التقني.
- يؤدي الانفجار المعرفي إلى استحالة أي باحث متخصص أن يحيط بجميع الحقائق العلمية والمعلومات ذات الصلة بتخصصه مهما بلغت درجة إحاطته وتعمقه في فرع من فروع المعرفة.
- غلبة النـزعة المادية الصرفة على مجالات البحوث العلمية، وذلك بتزايد الاهتمام نحو فروع العلوم التقنية القائمة على البحوث التطبيقية، التي تستهدف حل المشكلات التي تواجه المجتمع، وتطوير النظم والأساليب الإدارية، مقابل تراجع كبير في البحوث الأساسية والبحتة.. وفضلا عن أن البحوث في الجامعات الغربية تحمل خطابا أيديولوجيا يؤسس للذات الغربية،
[ ص: 137 ] فإن الجامعات العربية لم تستطع المشاركة، والحفاظ على الذات العربية، وبالتالي فشلت في الاستجابة لاحتياجات العولمة، ولم تتمكن من أن تنخرط في الشراكة العالمية العلمية
>[3] .
- انحسار المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية في كل البلاد العربية تقريبا، وتراجع قيمتها أو أهميتها، فضلا عن تهميش أدوار ما هو قائم منها.
- جمود البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي العربي، وتدني قيمته النظرية والتطبيقية؛ كونه أصبح أصداء أو تكرارا لما هو قائم في الجامعات الغربية، وبالتالي صارت المعرفة المستعارة إسقاطية، ناكرة للذات والآخر؛ نتج عنها إثارة التناقضات والصراعات بين مكونات المجتمع التعليمي والبحثي
>[4] .
- غياب الحرية الأكاديمية، وضعف التقاليد الأكاديمية المتعارف عليها، وضيق مساحة الاستقلال المالي والإداري، فضلا عن تعيين الأكاديميين والباحثين على أسس ومعايير غير موضوعية.
- ضعف أجور ومكافآت أعضاء هيئات التدريس والباحثين في الجامعات ومراكز الأبحاث في البلدان العربية غير النفطية؛ مما يجبرهم على بذل جهود مضاعفة، وهدر أوقات ثمينة خارج مؤسساتهم لزيادة دخولهم.
[ ص: 138 ]
- تفتقر البنية التحتية للبحث العلمي في الغالبية العظمى من الجامعات ومراكز البحوث في البلاد العربية لمختلف الموارد المادية والمالية والبشرية والفنية، بما فيها الضرورية، لذلك يتدنى الإنتاج العلمي فيها إلا ما ندر.
- تفتقد نظم التعليم ومؤسساته في البلاد العربية القدرة على التنمية البشرية وتنمية رأس المال الفـكري، والمشـاركة الفاعلة في اقتصاد المعرفة أو الدخول فيه، وامتلاك مقومات مجتمع المعرفة، أو المسـاهمة في تكوينه؛ لأنها لم تنخرط في السوق، ولم تستجب لمطالبه، أو تؤسس نظاما لإنتاج المعرفة واستخدامها، ثم أن تحويل العلم والمعرفة والثقافة إلى تجارة جعلها بعيدة عن تنمية رأس المال البشري وإنتاج المعرفة اللازمة للسوق ومعاييره.
- يؤدي الرفع من شأن العلوم المادية والتقنية إلى تكوين الشخصية الفردية، وإعلاء الذاتية الأنانية لينعكس ذلك في تبليد الإحساس، وتفكيك العلاقات الإنسانية البينية والعداوة والقسوة.
- طالما أصبحت المعرفة العامل الحاسم في العملية الاقتصادية بوصفها سلعة تباع في السوق العالمي وتدر أرباحا عالية، ومن ثم غدت المعرفة أهم مرتكزات العولمة لتعميم الثقافة الاستهلاكية.. والدول الرأسمالية الكبرى هي التي تملك المعرفة والمعلومات، لذلك فهي تهيمن على نشرها وتبادلها وتسويقها، وتضع شروطا قاسية لاحتكارها عبر الشركات العملاقة متعددة الجنسيات من جهة، وتفرض الحماية القانونية للمعرفة عن طريق "الجات" وغيرها، باسم حقوق الملكية الفكرية التي تتجاوز براءات الاختراع والعلاقات التجارية...الخ من جهة ثانية.
[ ص: 139 ]
- تحول المعرفة إلى سلطة للتحكم في العالم، تستمد قوتها من حاجات الإنسان الطبيعية للمعرفة، وذلك من خلال تأسيس منظومة للمعرفة والمعلومات واستخدامها، بوصفها سلعة استهلاكية يتم تسويقها وتبادلها عبر تقنيات المعلومات والاتصال والإعلام، وأصبح الرأسماليون الجدد هم الذين يملكون المعرفة ويستخدمونها، سواء أكان المالك دولة أو شركة أو شخصا.
- يحكم انتقال العلم والتقنية قرارات الاستثمار العالمي التي تتخذها الدول الرأسمالية الكبرى والشركات متعددة الجنسيات؛ لفتح الأسواق المغلقة أمام مقتنياتها الأخرى من ناحية، واتجاه الاستثمارات إلى الدول الغنية من ناحية ثانية.
- تحتكر الدول الرأسمالية الكبرى التقدم العلمي والتقني، مما يجبر البلاد العربية على نقل العلم والتقنية من الدول الكبرى، وبالتالي تكريس تبعيتها لها.
- تقوم الدول الرأسمالية الكبرى بنهب الثروة البشرية للبلاد العربية وبلدان العالم الثالث مثل غيرها من الثروات الطبيعية والإمكانات المتاحة المستمر من عهود الاستعمار التقليدي، وذلك من خلال احتكارها لسوق العمل، حيث تعمد إلى تفتيت مهام التصنيع، وتفتيت مهارات العمل، والتوسع في أتمتة وسائل الإنتاج، وفرض معايير على المعرفة والمهارات والخبرات المطلوبة للعمال، وتلزم الجهات المتخصصة باعتمادها؛ مما يؤدي إلى استبعاد عمالة البلاد العربية ودول العالم الثالث
>[5] .
[ ص: 140 ]
- هيمنة الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات على عمليات البحث العلمي، حيث ارتفعت نفقاتها بصورة لا تستطيع بلدان العالم الثالث تحملها؛ كي تحتكر المعرفة وتطبيقها.
- أخذت المعرفة وتفجرها المذهل يفرض العديد من الآثار والتحديات انعكست في مؤسسات التعليم العالي - خصوصا - في تغيير أهداف العلم وتوسيع مجالات تطبيقه، وتغيير أساليب أدوات الحصول على المعرفة وتطبيقها واسترجاعها، وزيادة الكفاية البحثية، وإنتاج المعرفة، وتوسع البحوث في التخصصات البينية، وتزايد الاستثمار الدولي في البحوث التطبيقية والتطوير، وتزايد المعايير العلمية التي تميز الابتكار، وتحول دون تكرار البحوث، وظهور اتفاقيات دولية تحمي الملكية الفكرية، وانخفاض قيمة المعرفة المكتسبة من مؤسسات التعليم العالي والعام
>[6] .
- محدودية حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، لأسباب عدة منها: محدودية المؤسسات العلمية المتخصصة في البلاد العربية، وانخفاض الكفايات والمهارات البحثية؛ مما يجعل الجامعات ومراكز البحث العلمي في البلاد العربية بعيدة عن التفجر المعرفي الحاصل في الدول الغربية، بل ومتخلفة عنه، أو متابعة استيعاب الإنتاج المعرفي.
[ ص: 141 ]