تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي أنزل علينا الكتاب، فأحكم آياته ثم فصلها بحسب الوقائع والمناسبات، فقال تعالى في وصف القرآن :
( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) (هود:1) ، وقال تعالى:
( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) (الفرقان:32) ، وقال تعالى:
( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) (الإسراء:106 )، أي أنزلناه شيـئا بعـد شيء لا جملة واحدة، وهذا ما أراده الله تعالى بتنـزيله وفق أسباب في الأرض في أوقات وأزمان معينة، فكان من بعض أبعاد تفريق إنزاله مراعاة الأسباب والمناسبات، ومعالجة المشكلات، وتقديم الأحكام للمحدثات والمستجدات، والإجابة عن أسئلة الإنسان، وتقديم العطاء الخالد لمسيرة الحياة، وبناء الأنموذج المحتذى، وإقامة الحضارة وفق منهج اللبنة، وأخذ الناس بأحكام التشريع شيئا فشيئا، وتربية نفوسهم وسلوكهم وعقولهم بقيم الدين، وتمكينهم من استيعاب أحكامه وتمثلها في واقع الحياة بتثبت وتمهل وأناة.
ولعل هذا التنجيم والتنـزيل والتفريق في الإنزال من بعض ملامح إحكام الآيات، أو مقاصد إحكام الآيات، ومن ثم تفصيلها وتنـزيلها على
[ ص: 5 ] واقع الحياة، وتجسيد معاني هذه الآيات في حياة الناس، وتحقيق مقاصدها في بناء أنموذج الاقتداء، الذي سوف تتم مقاربته على الزمن الطويل.
ولذلك قد نقول هنا: إن الإشكالية الكبيرة، التي تتطلب اجتهادا مستمرا اليوم، هي وجود القرآن بين أيدينا جملة واحدة واكتمال تنـزيله، ووجود أنموذج الاقتداء ومسـيرته التي جسـدت معاني الآيات وأحكامها في حياة الناس وسيرة بناء هذا الأنموذج، ذلك أن الحياة متطورة متغيرة، وأقدار التدين في هبوط وصعود، والنصوص تتناهى والحوادث والمستجدات لا تتناهى، والإشكالية تبقى مستمرة في السؤال الكبير المفتوح للاجتهاد وتقديم الرؤى:
كيف نتعامل مع القرآن الموجود بين أيدينا بعد أن أكتمل وأصبح جملة واحدة؟ كيف ننزل القرآن وبيانه النبوي على واقع الناس بحسب ظروفهم ومشكلاتهم ومقدار استطاعاتهم؟ وما هي متطلبات ومؤهلات ذلك الاجتهاد من العلوم والمعارف والوسائل والأدوات؟ وما هي الأولويات المطلوبة التقديم بعيدا عن الهوى والتشهي والانتقاء؟ وما هي الأحكام والتكاليف المطلوب تأخيرها لتوفير الاستطاعات والارتقاء بها إلى مستوى التكليف حيث الاستطاعة هي مناط التكليف؟
وهل رحلة التنـزيل، التي دامت ما يربو على العشرين عاما بمراحلها وأزمانها وأحكامها وحلولها ملزمة كقوالب صلبة تطبق بشكل صارم دون النظر في الاستطاعات وفقه حالات الناس وحاجاتهم؟ وهل معاودة التدرج
[ ص: 6 ] كمنهج تربوي ودعوي ممكنة بعد استقرار الأحكام في مرحلة بناء الأنموذج، تحت عنوان: "وإن عادوا فعد"، كقاعدة شرعية مطردة، أم أن الحل المناسب هو إعمال النسخ وإلغاء أحكام مساحات كبيرة من آيات القرآن والاقتصار على التلاوة دون التحقق بالمعاني، وكأن الحالات التي نزلت لعلاجها سوف لا تتكرر في مسيرة الحياة؟
وهل مرحلة بناء الأنموذج، حتى مرحلة الاكتمال، قوالب جامدة لا بد أن تنسلك فيها الحياة الإسلامية بعامة أو حياة العاملين للإسلام من الدعوة والسرية والجهرية، والدولة والأحكام، والسلم والحرب، والهدنة والصلح، والهجرة، و.... و.....، في كل زمان ومكان وإمكان، أم أن الأمر مرتبط بالاستطاعات، وأن من شروط استنباط الأحكام من الجملة الواحدة لآيات القرآن الموجود بين أيدينا تتطلب مجموعة أسئلة كبرى تشكل بمجموعها التحدي الكبير وتتطلب مؤهلات وفقه للحياة، فقه ودراية للواقع، للميدان والحالة التي عليه المكلف والاستطاعة كما تتطلب فقها للنص؟
وقد يكون من المفيد هنا أن نتأمل ونتوقف عند قبس من السيرة لعله ينير لنا بعض الطريق فنجد عليه هدى:
يذكر القرطبي، رحمه الله، ما يلي
( في قوله تعالى: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (النحل:106)، فيقول : "هذه الآية نزلت في عمـار بن ياسـر، أخذوه وأخـذوا أباه وأمه فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسـلام، وأما عمـار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه [ ص: 7 ] مـكرها، فشـكا ذلك إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كيف تجـد قلبك) ؟ قـال مطمـئن بالإيمـان، فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : فإن عادوا فعد )
فهل نعود لجواز النطق بالكفر، وقلبنا مطمئن بالإيمان، كلما اشتد التعذيب ومـورس الإكراه؟ وهل يعـود الحكم كلما عادت الحالة، ومن ثم نعمل لعلاجها والارتقاء باستطاعاتنا لبلوغ حالات التمكين والكمال والاكتمال؟
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي تنـزل عليه القرآن تنـزيلا مدة ثلاثة وعشرين عاما، المبين عن ربه ما نزل إليه، الذي كانت سيرته تجسيدا لقيم الكتاب والسنة في حياة الناس وتنـزيلا لآيات القرآن على واقع الأفراد والمجتمعات في ضوء المستجدات والمشكلات التي تعترض مسيرتهم، بل لعلنا نقول: إن السيرة بهذا المعنى كانت تمثل خريطة الطريق العملية والخالدة لمسالك الحياة، كما تشكل منجم العطاء في كل حين وآن لمسيرة الحياة والأحياء، ومنهج اللبنة في بناء مجتمعات النبوة، والتدرج القويم لمعاودة إقامة الحضارة الإسلامية، حضارة الرحمة
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107).
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" السادس والأربعون بعد المائة: "فقه التنـزيل عند الإمام ابن تيمية"، للأستاذة جميلة حسن تلوت، في سلسلة "كتاب الأمة"،
[ ص: 8 ] التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في سعيها الدائب لإعادة بناء الذات، وفق منهج اللبنة والذي يبدأ من استيعاب التراث، والعودة إلى قيم الكتاب والسنة من خلال هذا التراث العظيم، تلك الذات الحضارية التي تفقه قيمها وتعيش عصرها، القادرة على الاجتهاد وإعمال العقل والتحول من حالة التقليد والمحاكاة إلى فاعلية التوليد والاجتهاد وامتلاك القدرة على الامتداد.
وبالإمكان القول: إن جميع الجهود الطيبة والمباركة، التي انتهت إلى حفظ التراث، الذي يمثل شخصية الأمة وتميزها وتاريخها العلمي والثقافي، وتحقيق نصوصه بكل الدقة والأمانة... إن تلك الجهود في نقله، في معظمها إن لم نقل جميعها، توقفت عند تحقيق النص وتوفير ما يحيط به ونقله، من شروط وضوابط، لكنها في الغالب لم تتابع الخطو لتوفير الاجتهاد المطلوب حول كيفية تنـزيل النص على واقع الناس، الأمر الذي قد يكون المقصد الأساس من إحياء التراث وضبطه ونقله من جيل إلى جيل بهذه المنهجية العلمية والتي تعتبر من بعض الوجوه من عطاء حفظ الذكر (القرآن).
ولا شك أن جهود إحياء التراث حققت الاعتزاز بالذات والتشبث بالجذور والحيلولة دون الذوبان والافتتان بالآخر وحماية الأجيال من الارتماء على (الآخر)، وأبقت على الإمكان الحضاري، القادر -إن أحسنا التعامل معه -أن يحقق لنا معاودة النهضة والارتقاء واستئناف حضارة الرحمة، حضارة النبوة، وتحقيق الشهود الحضاري في حياة البشرية.
[ ص: 9 ]
ونحن هنا لا نبخس العاملين في التراث أشياءهم، ونهون من عملهم الكبير والعظيم، وإنما ندعو إلى التوفر على استيعاب وظيفة التراث ودوره في بناء الحاضر واستشراف المستقبل؛ فالـذي لم يستـوعب تراثه ولم يرق به أو يرتق من خلاله ولم يمنحه تراثه الرؤية لبناء الحاضر وتوليد الحلول والأحكام للتعامل مع العصر يتحول إلى مدع وعامل تثبيط يسئ إلى التراث نفسه وليس داعية نهضة وباعث فاعلية أمة؛ ذلك أن اقتصار إحياء التراث على الحفظ والتحقيق والحمل والنقل ومعالجة مركب النقص والعجز عن الإنتاج في الحاضر يحول التراث إلى معوق مهما كان حجم الجهود والأموال التي تصرف في هذا المجال، إلى درجة نخشى معها أن تلحق بنا علل تدين الأمم السابقة في حمل الكتب ونقلها من جيل إلى جيل دون دراية وعلم وعمل، يقول تعالى :
( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) (البقرة:78).
وقد تكون الحالة الأسوأ أن يستـطيع أعداؤنا قراءة تراثنا وتمثل تجاربنا والإفادة منها لبناء حاضرهم ومستقبلهم، واكتشاف وقراءة عقلنا وتاريخنا وشخصيتنا ووضع الخطط والاستراتيجيات لكيفية اختراقنا والنيل منا وزراعة الأجسام الغريبة في نفوسنا ومجتمعاتنا، التي تحاول إنـهاكنا، فقد لا تخطئ العين اليوم رؤية أشخاص يدعون العلمية والموضوعية في البحث والعلمانية في السياسة غرباء على التاريخ والحضـارة والتراث والقيم يحاولون أن يوجـدوا لأنفسـهم الشرعية تحت لوحات موهومة من
[ ص: 10 ] الواقعية أو الثورية أو شرعية الغلبة أو التخويف من بعض الصور والممارسات الشاذة عن منهج التدين الصحيح ومحاولة تعميمها على جميع المسلمين وحضارتهم وتراثهم.
ولا بد من الاعتراف أن التخلف والعجز عن استيعاب التراث وعدم وجود المعدة القوية القادرة على هضمـه وتمثله والإفادة من إمكاناته انتهى بنا إلى التبعثر والتمـزق والانحيـاز إلى هذا المذهب أو ذاك أو هذا الإمام أو ذاك دون وعى وإدراك لما انحـزنا إليه، ودخول معارك ثأرية تعاني من غربة الزمان والمكان، والتعصب للأشخاص، والعجز عن تمثل الأفكار والإفادة منها.
لقد تحولت المناهج الاجتهادية والمدارس الفقهية والفكرية والأدبية من مصدر غنى وخصوبة عقلية، من محرض ومولد ومنتج إلى مذاهب وإقطاعات بشرية قائمة على التعصب والتقليد والمحاكاة والانحياز وصرف الطاقات وهدر الإمكانات في المعارك الخطأ.
فكم من المعارك في تاريخنا قامت على التعصب المذهبي، وكم من الطاقات والإمكانات والأوقات هدرت بالمشاحنات والمناقشات والمجادلات والمناظرات المذهبية، التي لم تؤد إلا إلى مزيد من التعصب والانغلاق والتقليد؛ وقد لا نستغرب أن يدفع التعصب والتحيز بعض أصحابه إلى استباحة الدماء والعبث بالأحكام الشرعية والإقدام على وضع الأحاديث المكذوبة واستباحة الكذب تأييدا لمذهب وحطا من قدر آخر، حيث كانت
[ ص: 11 ] المحصلة في نهاية المطاف استنـزاف الطاقات في المعارك الخطأ، والتحول إلى المجالات غير المجدية، على حساب التقدم والتنمية والتربية والتخصص في شعب المعرفة والتحقق بوسائل النهوض الحضارية، حيث يتم ذلك وما يزال باسم الغيرة على الدين والحماس للحقيقة.
إن استيعاب القيم، المستمدة من الكتاب والسنة، وفهمها، والإحاطة بتاريخ تجسيدها في واقع الناس من خلال التراث، ومدى دقة التفقه بها، وحسن الإفادة من عطائها لمعالجة مشكلات الواقع واستشراف مستجدات المستقبل والإعداد لعالم الغد يعتبر ملفا مفتوحا أمام العقول في كل زمان ومكان؛ ذلك أن عطاء قيم الوحي خالد، وأن التراث فعل بشري محدود بجدار الزمان والمكان والاستطاعة، وأن تقدير التراث والاعتزاز به واستيعابه لا يعني بحال من الأحوال الاكتفاء به والوقوف عنده وعدم الاتصال بقيم الوحي والاغتراف منها، وإنما يعني استصحاب التراث والإفادة من مناهجه وأدواته، والعودة للقيم من خلاله، وليس القفز من فوقه، وإسقاط هذا التاريخ العلمي والثقافي وعدم الاهتداء به، لكن التراث العظيم لا يجوز أن يكون بديلا عن قيم الكتاب والسـنة، ولا حاكما عليها، ولا يحمل عصمتها وقدسيتها.
ولعل الإشكال الكبير - كما أسلفنا - أن نزول القرآن امتد ثلاثة وعشرين عاما، وكانت آياته تتنـزل في ضوء معالجة الحال التي عليها الأمة، والمناسبات التي تمر بـها، والأسئـلة والإشكالات التي تعترضها، وكان
[ ص: 12 ] الرسول صلى الله عليه وسلم المسدد بالوحي والمؤيد به هو محل التنـزيل ودليله، وكانت سيرته مع أصحابه في مجتمع النبـوة هي محل التجسيـد، وكانت لا تبدأ مرحلـة إلا بعد اكتمـال سابقتها، في ضوء الاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة.
أما الإشكالية أمس واليوم وغدا أننا أمام جملة آيات القرآن، أو أمام القرآن جملة واحدة، وأمام مجمل تجسيدها في مجتمع النبوة، وجملة فهمها وتنـزيلها من خلال التراث، فكيف نستوعب هذا جميعه، بكل ما يتطلب من تخصصات وأدوات معرفية شرعية وإنسانية واجتماعية وتشريعية وقانونية وعبادية؟ وكيف نستوعب واقعنا بكل ظروفه وتعقيداته ومكوناته؟ وكيف نقيس ونحدد ونفقه استطاعاتنا، محل التكليف أو مناط التكليف؟ وكيف نضع هذا الواقع في موقعه المناسب، ونستهدي بالتراث في كيفية تنـزيل القيم الملائمة للحال التي نحن عليها، الواقع الذي نعيشه، من خلال جملة آيات القرآن الكريم؟ وكيف نطور ونرتقي باستطاعتنا لاستكمال تنـزيل جملة الآيات على واقعنا؟
من هنا نقول: إن هذا يشكل الملف الأهم للاجتهاد، ذلك أن الاجتهاد، في تراثنا، انصرف في معظمه إلى فقه النص وتفسيره ودلالاته، كما سبق وأشرنا، والقليل القليل من تراثنا الاجتهادي تمحور حول إعمال النص في حياة الناس، أو فقه النوازل، أو الاجتهاد التنـزيلي، الذي يتطلب
[ ص: 13 ] فقه النص بكل فضائه وخلوده ودلالاته وفهم الواقع بكل مكوناته وتعقيداته وإمكاناته وأبعاد تكليفه، وهذا الذي ندعو إليه قد لا ينفع معه الاجتهاد الفردي، ولا يمكنه ذلك، وإنما يتطلب التوفر على الاجتهاد الجماعي، بكل استحقاقاته من التخصصات المطلوبة، سواء لفقه النص أو فهم الواقع، الأمر الذي أصبحت له علومه ومعارفه وأدواته.
والأمر في هذا وفي غيره من الاجتهـاد معرض للخطأ والصواب، ككل اجتهاد وجهد بشري، لكنه أمر لا بد منه لتنـزيل القيم الإسلامية على واقع الناس؛ وتسديده إنما يكون بكثرة الحوار والمناقشة والمثاقفة والمقارنة والاستـدلال واستصحاب التجارب والفهوم السابقة، وهو يتطلب بطبيعته قدرا من الجرأة والشجاعة في الإقدام عليه والتراجع عن الخطأ إذا ظهر فيه.
وقد يكون المطلوب تأسيس وتأصيل أصول فقه للتنـزيل على الواقع، إذا اعتبرنا أن أصول الفقه القائم إنما تأسس وتأصل لتفسير النص والاستنباط منه ومعرفة دلالاته.
ويبقى الخوف من الخطأ في الاجتهاد، بشكل عام، والاجتهاد التنـزيلي بشكل خاص، يشكل الجدار النفسي أو الحاجز النفسي لنمو وتقدم فقه النوازل، على ضرورته وأهميته، والهروب منه إلى الاحتماء بالتراث، والاكتفاء بنقل أقوال السابقين، وفي أحسن الأحوال عمل مقاربات والاتكاء على فقه واجتهاد السابقين.
[ ص: 14 ]
نعاود القول: إن الإشكالية الكبيرة اليوم والتي تختلف عن مسيرة الدعوة في مرحلة النبوة، حيث التنـزيل بحسب الواقع والمناسبات، والاجتهاد والتسديد من الموحى إليه والقرآن ينزل منجما مفرقا بكل ما لذلك من حكم، الإشكالية الكبيرة اليوم تتمحور في أننا أمام جملة الآيات القرآنية، حيث اكتمل نزول القرآن وأصبح جملة واحدة، وهذه الآيات بمجموعها عالجت جميع شؤون الحياة، وأمام التراث الذي يشكل مجموعة الفهوم والاجتهادات التنـزيلية للوحي على واقع الناس في تاريخ مسيرة الأمة، فما هو موقعه اليوم؟ وأين يقع شأننا من هذا الفضاء الكبير؟ وما هي الآيات والأحـاديث، أو ما هي النصوص، التي تشـكل لنا حلا ورؤية في مرحلـة دون أخرى؟ وما هي المقاربات والمماثلات من التراث، حيث التواصل الثقافي والاجتماعي واتحاد أصول المشكلات؟ وكيف نوفر الفقه المطلوب لمحل تنـزيل النص، حيث فقه النص يعتبر نصف الحقيقة، ويبقى النصف الغائب والأخطر هو ملائمة محل النص لتنـزيل النص عليه وتوفر شروط المحل وانتفاء الموانع؟
وقد يكون من المفيد أن نقول: إنه على الرغم من توفر القرآن بين أيدينا جملة واحدة، وتوفر الفهوم (التراث الممتد لفقه القيم وتحكيمها في الحياة) فإن ذلك كله سيصبح عبئا إذا لم تتوفر له المؤهلات المطلوبة والمجتهدين المبصرين القادرين على تنـزيله على الواقع بشكل دقيق وسليم؛ ذلك أن الفقه التنـزيلي -فيما نرى -لا يقل دقة وخطورة وأهمية عن فقه النص، الفقه التنظيري.
[ ص: 15 ]
إن التوفر على منهج وأدوات وشروط دراسة المحل، والقيام بالمقايسة والمقارنة، واستصحاب مقاصد الشريعة ليس بالجهد السهل، بل قد يتطلب فقها ميدانيا وبصيرة كاشفة للأسباب والنتائج والعواقب والمآلات، ذلك أن الاقتصار على الميكانيكية الفقهية فقط دون استصحاب المقاصد وإبصار العواقب والمآلات، قد يؤدي إلى فوات المصلحة والمقصد، لذلك نجد في تراثنا الفقهي كثيرا ما عدل عن القياس إلى الاستـحسان عندما يصبح تطبيق القياس مفوتا للمصلحة، حتى أصبح الاستحسان أحد مصادر الاجتهاد التبعية.
ولا بد من الاعتراف أن عملية الفقه التنـزيلي محفوفة بالمخاطر، ومملوءة بالمجازفات، فإذا غاب فقه النص ومحل خطابه وتكليفه والنوايا الطيبة وتصدى للعملية من لا يحيط بعلمها يقع العبث بالأحكام الشرعية وتنـزيلها على غير محلها وحالاتها، وتقع الإشكالات الكبيرة في حياة الناس، وتتحول الشريعة من رحمة ويسر وحل إلى مشقة وعسر ومشكلة.
ولعل من أشد الأمور خطورة غياب الرؤية الشاملة لاكتمال الشريعة واستقرار الأحكام وإبصار الهدف النهائي أثناء الإقدام على فقه التنـزيل وتحقيق الهدف المرحلي؛ لأن ذلك الغياب سوف يؤدي لممارسة تقطيع النص وتجزئته وإخراجه عن سياقه وممارسة الانتقاء لتسويغ أفعالنا؛ فبدل أن يكون هوانا تبعا لمقاصد النص وما جاء به تنعكس الصورة فيصبح ما جاء به النص من مقاصد وتكاليف تابعا لهوانا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( لا يؤمن أحدكم [ ص: 16 ] حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) ؛ وليس ذلك فقط وإنما ممارسة الإسقاط، حيث ترافق الكثير من هذه الإسقاطات مع نشوء الأحزاب والجماعات الإسلامية، التي حاولت إسقاط الآيات والأحاديث على واقعها؛ لتعطي لسلوكها المسوغ والشرعية، سواء في ذلك اعتبار أنفسهم الجيل القرآني الفريد، على ما فيهم من قصـور وتقصـير ونقص، أو جمـاعة المسلمين، أو الطائفة المنصورة، أو إمارة المؤمنين، الأمر الذي انتهى بهم إلى إعطاء البيعة المطلقة لأمرائهم، أو الهجرة وأحكامها؛ بسبب الاستبداد السـياسي، أو الاحتماء بآيات السلم والحرب والهدنة والفيء والغنيمة، ولا دولة لهـم ولا سلطان، أو غير ذلك مما انتهى به الأمر إلى العبث بالأحكام وإسقاطها على غير محالها، وتبعثر الناس فيها، وتفريق أمر الدين.
وليس أقل من فقهاء الأحزاب والجماعات خطورة فقهاء السلطات السياسية أو السلطات المالية، الذين يعمدون إلى اختيار الآيات والأحاديث وأحداث السيرة النبوية وإسقاطها على الحاكم أو المتمول لتسويغ فعله وإعطائه الشرعية وجعله محلا للقبول من جماهير المسلمين، ويشتد الأمر خطورة في أيام الفتن والتباس الأمور، حيث يبرز فقهاء الفتنة، الذين يوظفون الآيات والأحاديث لهواهم، لذلك نقول: لا بد أن يكون هذا الاجتهاد التنـزيلي، أو اجتهاد النوازل، محلا للنقد والمراجعة والنقض والتعديل والمناقشة والمناظرة، ولا يعتبر فقيها فيه كل من يحمل المناصب والألقاب حتى ولو كانت في ظاهرها علمية.
[ ص: 17 ]
فالاجتهاد، أو الفقه التنـزيلي، في الحقيقة، هو فقه المعارك الحياتية، فقه الميدان، فقه محل التكليف وملائمة الحكم للحال، الذي عليه المكلف، وليس فقها للكتب والأوراق؛ ليس فقها تنظيريا.
ففقه التنظير غير فقه التنـزيل، الذي يتطلب النظر للميدان والواقع والمعرفة بكل مكوناته وإمكاناته وحاجاته، يقول تعالى:
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122).
وخلاصة القول: إن أحكام الشريعة بعد أن اكتملت وتسدد تنـزيلها وتجسيدها في واقع الناس، على عين النبوة، وبعد أن وصلنا القرآن جملة واحدة، فأحكامها أشبه ما تكون بأدوية الحياة ومعـالجة عللها، هي أشبه ما تكون بالصيدلية، التي توجد فيها جميع الأدوية لجميع الأدواء؛ والاجتهاد التنـزيلي الصحيح أن نصف كل دواء لدائه، فإذا وضعنا الدواء لغير دائه كان سببا في قتل المريض بدل المساهمة في شفائه، بإذن الله؛ يقتله على الرغم من كونه دواء.
وبعد:
فهذا الكتاب يعتبر أحد الإسهامات المقدورة والتوجهات المعرفية الطيبة المعاصـرة والمحـاولات الجادة لفتح ملف تراث الاجتهاد التنـزيلي، الذي لم يأخذ حقه وحجمه المطلوب في حياتنا المعاصـرة، ذلك أن فقه النوازل لا يخرج عن أن يكون أحد أبواب الفقه الكثيرة والكبيرة.
[ ص: 18 ]
ولقد أحسنت الباحثة أن جعلت محل بحثها أحد أعلام الفقه التنـزيلي شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، الذي كان أنموذجا يحتذى بعلمه وجهاده وفقهه لنصوص الكتاب والسنة واستيعابه للنوازل ومعطيات الواقع ومعايشة المشكلات الحياتية وما يعانيه الناس عن كثب؛ لقد نفر لفقه المعركة، وقدم حلولا من عطاء الوحي وسيرة السلف الصالح لمشكلات عصره، فكان بحق من أعلام وأئمة الفقه التنظيري، فقه النصوص والبحوث والدراسات والمقايسات، ومن شيوخ الفقه التنـزيلي، فقه المعارك، حيث كانت نفرته متميزة لمعارك الحياة وخوض غمارها والوعي بمتطلباتها.
إن اختيار بعض الفقـهاء الأعلام والرواد، الذين عاشوا وسط المجتمعات وقادوها إلى تحقيق المقاصد الدينية، وكان فقههم فقه مقاصد؛ لأنهم كانوا يسيرون أمام المجتمـع، ولم يكن فقه مخارج، شأن من يسير خلف المجتمعات وبعيدا عن نبض الحياة وإيقاع الناس،إن اختيار هذه النماذج من الفقهاء الأعلام وجعلهم محل دراسات أكاديمية يمنح الكثير من الرؤى المبكرة لطلاب الدراسات الأكاديمية، ويمكنهم من الإطلاع على تراثنا العظيم، ويبصرهم بأن التوفر على استصحاب التاريخ الثقافي يصنع الحاضر ويوجه المستقبل.
وتبقى الإشكالية الثقافية عامة في أننا عرفنا واكتشفنا الكثير من الكنوز التراثية عن طريق (الآخر)، حيث لم نكن في مراحل كثيرة في مستوى تراثنا، ولا ندرى هل الإشكالية في معاهدنا وجامعاتنا وقدراتها، أم في مناهجنا
[ ص: 19 ] وأدوات ووسائل بحوثنا، أو في البناء النفسي، حيث زرع الخوف من الاجتهاد في نفوس أجيالنا، أم في تعطيل ملكات الإبداع في شخصيتنا المعرفية بحيث نستمر عالة على (الآخر)، في دراساته وكشفه وإبداعه، فيبقى أعرف بتراثنا منا؟ حيث الكثير من الدراسات والأعلام أدركنا أهميته وجاء إلينا من عندهم.
ولعل من بشائر الخير وبصائر المستقبل أن تتوجه الأخت الباحثة وأمثالها من الطلبة في بواكير دراساتهم العليا إلى مثل هذه الموضوعات الدقيقة والحية، ويفتحوا ملفها، ويستدعونها إلى الهم الثقافي والعلمي، لتؤسس لنهضة مستكملة الشروط ومستوفية المرجعية الإسلامية.
والله من وراء القصد.
[ ص: 20 ]