المطلب الخامس: أهمية تحقيق المناط عند شيخ الإسلام:
يكتسي الاجتهاد في تحقيق المناط أهمية كبرى في فقه الإمام ابن تيمية، دل على ذلك كتاباته في الفقه وأصوله
>[1] ، فالإمام ابن تيمية حين اعتبر أن "الشارع نصوصه كلمات جوامع، وقضايا كلية، وقواعد عامة، يمتنع أن
[ ص: 91 ] ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة"
>[2] قال بضرورة الاجتهاد في المعينات، "فلا بد من الاجتهاد في المعينات: هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا؟"
>[3] .
فالاجتهاد في المعينات كفيل بضمان تطبيق الشريعة الإسلامية، مما يحقق ديمومتها واستمراريتها، ذلك "أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية مثل إيجاب الزكوات، وتحريم البنات والأخوات، ولا يمكن أمر أحد بما أمره الله به، ونهيه عما نـهاه الله عنه، إن لم يعلم دخـوله في تلك الأنواع الكلية، وإلا فمجرد العلم بها لا يمكن معه فعل مأمور ولا ترك محظور، إلا بعلم معين، بأن هذا المأمور داخل فيما أمر الله به، وهذا المحظور داخل في ما نهى الله عنه"
>[4] .
"فالجزئيات الخاصة... مثل ميراث هذا الميت وعدل هذا الشاهد... وأمثال ذلك، فهذا مما لا يمكن نبيا ولا إماما ولا أحدا من الخلق أن ينص على كل فرد فرد منه، لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية علم واحد من البشر وعبارته، ولا يمكن لبشر أن يعلم ذلك كله بخطاب الله له، وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة"
>[5] ، "فالكتاب
[ ص: 92 ] والسنة بينا جميع الأحكام بالأسماء العامة، لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهم دقيق ونظر ثاقب، لإدخال كل معين تحت نوع، وإدخال ذلك النوع تحت نوع آخر بينه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحينئذ فكل من الحوادث شملها خطاب الشارع، وتناولها الاعتبار الصحيح، وخطاب الشارع العام الشامل دل عليها بطريق العموم الذي يرجع فيه إلى تحقيق المناط"
>[6] .
- أهمية معرفة تحقيق المناط بالنسبة للمجتهد:
أعطى الإمام ابن تيمية لتحقيق المناط وظيفة معيارية خولت له التفضيل بين الفقهاء، لذلك قال: "وأما معرفة دخول الأعيان الموجودة في هذه الأسماء والألفاظ، فهذا قد يكون ظاهرا، وقد يكون خفيا يحتاج إلى اجتهاد، وهذا هو التأويل في لفظ الشارع الذي يتفاضل الفقهاء وغيرهم فيه، فإنهم قد اشتركوا في حفظ الألفاظ الشرعية بما فيها من الأسماء، أو حفظ كلام الفقهاء، أو النحاة أو الأطباء، وغيرهم. ثم يتفاضلون بأن يسبق أحدهم إلى أن يعرف أن هذا المعين الموجود هو المراد، أو مراد بهذا الاسم. كما يسبق الفقيه إلى حادثة فينـزل عليها كلام الشارع أو كلام الفقهاء... إذ الكتب والكلام المنقول عن الأنبياء والعلماء إنما هو مطلق يذكر الأشياء بصفاتها وعلاماتها، فلا بد أن يعرف هذا المعين هو ذاك"
>[7] .
[ ص: 93 ]
وفي نفس السياق يقول أيضا: "وإنما فضيلة الفقيه إذا حدثت حادثة أن يتفطن لاندراج هـذه الحـادثة تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره، أو يمكنهم معرفته بأدلته العامة نصا واستنباطا"
>[8] .
وعليه، فإن ركنية تحقيق المناط في العملية الاجتهادية لا تخفى، ذلك "أن معرفة الدليل الشرعي ومرتبته بعض ما يعرفه المجتهد، ولا يكفي في كونه مجتهدا أن يعرف جنس الأدلة، بل لا بد أن يعرف أعيان الأدلة، ومن عرف أعيانها وميز بين أعيان الأدلة وبين غيرها كان بجنسها أعرف"
>[9] .