المطلب السابع: الشروط الواجب توافرها في المحقق للمناط:
يلخص الإمام ابن تيمية في نص نفيس جامع الشروط الواجب توافرها في أي مجتهد، وتحقيق المناط يندرج ضمـن أنواع الاجتهاد، فاعتبر أن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الشرع لم يعرف أحكام الله في عباده، يقول الإمام: "والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمـال أدناهما،ويجتلب أعظم الخـيرين بفوات أدناهما، فإن من
[ ص: 95 ] لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"
>[1] .
يتجلى من هذا النص الجامع الشروط التي يشترطها الإمام والتي يمكن سردها في ما يأتي:
1- أن يكون المجتهد عالما بفقه مراتب الأعمال.
2- أن يكون المجتهد ممن يكون له دراية بفقه الموازنة والترجيح.
3- أن يكون المجتهد عارفا بفقه واقع الخلق والواجب في الدين.
وإذا تمت إضافة نصوص أخرى إلى هذا النص سيتضح أن الإمام يعتبر مقاصد الشريعة من أهم شروط الاجتهاد، ذلك أن "الشارع لا يشرع العبث"
>[2] ، وفي هذا يقول الإمام: "فمن فهم حكمة الشارع منهم كان هو الفقيه حقا"
>[3] ، وأعطى الإمام للمقاصد بعدا تفضيليا بين الفقهاء قال: "وأحق الناس بالحق من علق الأحكام بالمعاني التي علقها بها الشارع"
>[4] .
وقال أيضا: "لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العـلوم، وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه
[ ص: 96 ] شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة، والرحمة السابغة، والعدل التام"
>[5] .
ومن الأمثلة التطبيقية الدالة على تفضيله لمن يأخذ بالمقاصد ما حصل للصحابة، رضـوان الله عليهم، عام الخندق حين قال لهـم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) >[6] فأدركتهم صلاة العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال بعضهم: لم يرد منا هذا، فصلوا في الطريق. فالأولون تمسكوا بعموم الخطاب، فجعلوا صورة الفوات داخلة في العموم، والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم، فإن المقصود المبادرة إلى القوم، وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافا مشهورا: هل يخص العموم بالقياس؟ واعتبر الإمام الآخذين بالمقاصد أصوب، قال: "ومع هذا فالذين صلوا في الطريق أصوب"
>[7] .