المطلب الرابع: مقومات اعتبار المآل عند الإمام ابن تيمية:
1- سد الذرائع:
- التعريف الإفرادي:
أ- التعريف المعجمي:
السـد بالفتـح: الجبل، والسـد الحاجز، والسـد - بالضم - ذهاب البصر
>[1] .
[ ص: 119 ]
والذرائع: جمع ذريعة، وهي مشتقة من ذرع، والذال والراء والعين أصل واحد يدل على امتداد وتحرك إلى قدم، ثم ترجع الفروع إلى هذا الأصل، فالذراع ذراع الإنسان، معروفة. والذرع: مصدر ذرعت الثوب والحائط وغيره. ثم يقال: ضاق هذا الأمر ذرعا، إذا تكلف أكثر مما يطيق، والذريعة ناقة يتستر بها الرامي يرمي الصيد
>[2] ، والذريعة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعة، أي توسل
>[3] ، والذريعة: السبب إلى شيء، يقال: فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك
>[4] .
ب- التعريف المصطلحي:
يعرفها الإمام ابن تيمية بقوله: "والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء"
>[5] ، فهذا الإطلاق من الإمام يحتمل سد الذرائع كما يحتمل فتحها.
التعريف التركيبي لسد الذرائع
>[6] :
يعرفها الإمام ابن تيمية بأنها "عبارة عما أفضت إلى فعل محرم"، ثم وضح شيخ الإسلام أن الذريعـة إذا تجـردت عن إفضـائها إلى الفعـل
[ ص: 120 ] المحرم لم يكن فيها مفسدة، قال: "ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة"
>[7] .
وتجدر الإشارة أن الإمام ابن تيمية إذا أطلق الذريعة دون تقييد فهو يقصد بها سد الذرائع.
- أثر اعتبار المآل في تقسيم الذرائع:
لما كان القصـد الأسـاس من التشريع الإسـلامي هو جلب المصلحة للعباد، ودرء المفسـدة عنهم في الدارين، كان من الضروري التمييز بين الوسائل الموصلة إلى تحقيقه. فإذا تعلق الأمر بوسيلة مفضية إلى مصلحة معتبرة، كان من اللازم الاهتمام بها وفتحها. بينما إذا كانت الوسيلة مؤدية إلى مفسدة راجحة فلا بد في هذه الحالة من سدها
>[8] . فإذا تعلق الأمر بالقسم الأول فهو فتح للذرائع، أما إذا تعلق بالقسم الثاني فهو سد للذرائع.
يقول الإمام أبو زهرة: "فالأصل في اعتبار الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال، فيأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه، سواء أكان يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أم لا يقصده، فإذا كان الفعل يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإن كان لا يؤدي إلا إلى شر فهو منهي عنه"
>[9] .
[ ص: 121 ] - صلة سد الذرائع بمآلات الأفعال:
المقصود من سد الذرائع منع وسائل الفساد، وسد الطرق المؤدية إليها، ودفعها قبل وقوعها؛ لأن الشريعة مبنية على الاحتياط والتحرز، وذلك حفاظا على مقاصد التشريع، فسد الذرائع هي أكثر القواعد الأصولية تعلقا بالمآلات، ولشدة ارتباطها بالمآلات ارتبط ذكر المآلات بها
>[10] ، حتى إن الأستاذ ناجي السويد اعتبر أن مصطلح سد الذرائع مرادف لمصطلح المآل، قال: "ويسمى دليل سد الذرائع بمصطلح آخر هو: مآل الأفعال؛ والذي يعتبر من مقاصد الشريعة المهمة"
>[11] ، والصواب أن قاعدة سد الذرائع تتفرع عن أصل مآلات الأفعال، لأنه عند إعمالها ينظر إلى المآل الذي يفضي إليه الفعل؛ فإن الأصل في اعتبار الذرائع مبني على النظر فيما تؤول إليه، فيأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول إليه، ولا ينظر إلى كون الفعل في أصله مشروعا؛ لأنه تذرع بالفعل الجائز إلى غير الجائز، فأصل الفعل وإن كان على المشروعية لكن مآله غير مشروع
>[12] .
وقد ثبت الأخذ بالذرائع وإعطاؤها حكم ما تؤول إليه بنصوص كثيرة قد اجتمعت على معنى واحد وأفادت فيه القطع، وهو أن الفعل إذا كان مأذونا فيه لما يترتب عليه من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، ولكنه في نفس الوقت ذريعة إلى تفويت مصلحـة أهم أو حـدوث ضرر أكبر، فإن
[ ص: 122 ] الشارع يقصد إلى المنع من هذا الفعل تحصيلا لأرجح المصلحتين، ودفعا لأشد الضررين
>[13] .
فالعلاقة بين قاعدة سد الذرائع ومآلات الأفعال هي علاقة سببية، فالذريعة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة أو ضرر سدت، وإذا كانت تؤدي إلى مصلحة أو خير فتحت، فالمآل مسبب والذريعة سبب.
أما فتح الذرائع فلم يتحدث عنه الإمام ابن تيمية، لكنه أشار إليه في بعض المواطن، نحو قوله: ما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وكذلك عند حديثه عن الرخص.
- حجية سد الذرائع عند الإمام ابن تيمية:
أورد الإمام ابن تيمية ثلاثين دليلا لإثبات هذه القاعدة، معتبرا "أن شواهد هذه القاعدة أكثر من أن تحصر"
>[14] .
- الأدلة من القرآن الكريم:
الآية الأولى: قوله تعالى:
( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) (الأنعام:108)، حرم الله سب الآلهة مع أنه عبادة، لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم.
>[15] [ ص: 123 ] الآية الثانية:
( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (المائدة:90)، فالله تعالى حرم الخمر لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب، ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتحليل، وجعلها نجسة لئلا تفضي إباحة مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها بل إلى شربها
>[16] .
الآية الثالثة:
( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) (النساء:3) وجه الشاهد أنه سبحانه وتعالى حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعـم أن به قوة على العدل بينهن مع الكثرة، وكذلك عند من زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المؤونة المفضيـة إلى أكل الحرام من مال اليتـامى، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى:
( ذلك أدنى ألا تعولوا ) (النساء:3)، وهذا نص في اعتبار الذريعة.
>[17] الآية الرابعة:
( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ) (البقرة:235)، فالله سبحانه حرم
[ ص: 124 ] خطبـة المعتـدة صريحـا، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة إن كان المرجع في انقضـائها ليس هـو إلى المـرأة، فإن إباحة الخطبة قد تجر إلى ما هو أكبر من ذلك.
الآية الخامسة:
( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم ) (البقرة:235) فالله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين، ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين.
>[18] الآية السادسة:
( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) (البقرة:104) ، فالله سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا؛ مع قصدهم الصالح، لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا
>[19] .
الدليل السابع: أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر، وإن كانت العقوبات من جنس الشر، ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه
[ ص: 125 ] بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحد إذا رفعت إليه الجريمة، وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها، لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له
>[20] .
الأدلة من السنة النبوية:
الدليل الأول: عن عبـد الله بن عمـرو، رضـي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه ) >[21] .
ولفظ البخاري:
( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه"، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه ) >[22] .
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق، لأن سب آباء الناس هنا حرام، لكن قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر لكونه شتما لوالديه لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره
>[23] .
[ ص: 126 ] الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام.
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التـي لا يعـلم بتخمير النبيذ فيها حسما لمادة ذلك، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحـكام خلاف، وبين صلى الله عليه وسلم أنه إنما نهى عن بعض ذلك، لئلا يتخذ ذريعة فقال:
( لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه ) يعني صلى الله عليه وسلم أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا.
الدليل الرابع: أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير
>[24] .
الدليل الخامس: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها، وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا، وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة
>[25] .
[ ص: 127 ] الدليل السادس: أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها
>[26] .
الدليل السابع: أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مثل قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ) >[27] ، وقوله صلى الله عليه وسلم :
( إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم ) >[28] .
وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء:
( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ) >[29] . وقال في مواضـع:
( لاتشبهوا بالأعاجم ) >[30] ؛ وما ذاك إلا لأن المشابـهة في بعض الهـدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذاك يجر إلى فساد عريض
>[31] .
[ ص: 128 ] الدليل الثامن: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، وقال:
( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ) >[32] ، حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيـت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها لم يجز ذلك، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان، لأن الطبائع تتغير، فتكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة
>[33] .
الدليل التاسع: أن السنـة مضت بأنه ليس لقـاتل من الميراث شيء، أما القاتل عمدا كما قال مالك، أو القاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة، على تفصيل لهما أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة، أو القاتل بغير حق، أو القاتل مطلقا كما هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا، وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل، فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر
>[34] .
الأدلة من آثار الصحابة، رضوان الله عليهم:
اتفق الصحابة وعامـة الفقهاء على قتل الجمع بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء
>[35] .
[ ص: 129 ]
فهذه هي بعض الأدلـة من تلك التي سـردها الإمـام ابن تيمية للتدليل على سد الذرائع، وكما قال الإمام "والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط"
>[36] .
2- الحيل:
سبق في فصل: "مقدمات فقه التنـزيل" الحديث عن تعريف وأقسام الحيل، وبقي الحديث عن الفرق بينها وبين الذرائع، فما هو الفرق بينهما؟
الفرق بين الحيل والذرائع:
الحيل والذرائع على الاصطلاح المشهور عند العلماء قاعدتان متشابهتان، والكلام فيهما متداخل، وهما يلتقيان من وجه، ويفترقان من وجهين، وبيان هذه الأوجه على النحو الآتي:
أما الوجه الذي يلتقيان فيها، فهو ثمرة العمل ونتيجته، حيث يظهر من كلام الإمام ابن تيمية في بيان حقيقتهما أنهما يؤديان إلى المفسدة، والإخلال بأحكام الشريعة ومقاصدها، ولهذا سدت الذرائع، ومنع المكلف منها، حتى لايتوصل بسببـها إلى المحرم، فهي وإن كانت جائزة في ذاتها، إلا أنها تحرم لما تفضي إليه من المفاسد، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء، لبقيت على جوازها، ولما منع المكلف منها.
[ ص: 130 ]
ولهذا الوجه أيضا أبطلت الحيل، وألغيت ولم يعتد بها، فمتى ما عرف أن المكلف محتال، فإن تصرفه يعد ملغيا، ويعامل بنقيض قصده، فهو حينما سلك الحيل أراد أن تكون مفرا له من حكم المسألة الشرعي، الذي يريد أن يهرب منه، فهذا التصرف لا يخرجه عن الحكم الشرعي، بل تبطله حيله، ولايكون لها الأثر الذي يريد
>[37] .
أما الوجهان اللذان يفترقان فيهما، فأحدهما: من جهة العموم والخصوص، والثاني: من جهة القصد وعدمه.
أما الوجه الأول، فحاصله: أن الذرائـع تعتبر أوسـع من الحيل، لكونـها شاملة لكل ذريعة مفضيـة إلى مفسـدة راجحة في الغالب، سواء اقترنت بقصد المكلف لتلك المفسـدة أم لا، لأن التعويل في سدها على نتيجـة العمـل، دون قصد المكلف
>[38] ، يدل على هذا تقسيم الإمام ابن تيمية للذرائع حين قال: "ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصـد فاعـلها، ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم، فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة، وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع، وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع"
>[39] .
[ ص: 131 ]
أما الوجه الثاني: وهو افتراقهما من جهة القصد وعدمه، فحاصله: أن المعول عليه في سد الذرائع ليس هو النية أو القصد إلى المفسدة الممنوعة، ولكن ما يترتب على الفعل من المفاسد في الغالب، ولذا فإن العلماء القائلين بسد الذرائع يوجبون سدها وإن لم يثبت قصد الفاعل إلى تلك المفسدة المترتبة على تلك الذريعة، بل يمنعون هذه الذرائع، وإن كانت صادرة بحسن قصد ونية، "فلما حرم الله - سبحانه - سب الآلهة مع أنه عبادة، لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى، لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا آلهتهم"
>[40] .
هذا هو الشأن في الذرائع، أما الحيل فإنه يشترط في إبطالها وإلغائها أن تكون صادرة من المكلف بقصد الفرار من الحكم الشرعي، والإخلال بقواعد الشريعة وخرم أصولها، وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هذا الفرق بقوله: "والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها المحرم، خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم وهذا شأن الحيل، كان أولى بالتحريم من الذرائع"
>[41] .
يظهر من كلام الإمـام تنصيصه على تحريـم الشـارع للذرائع وإن لم تصدر عن قصد إلى ذلك المحرم، مبينا أن الضابط في منعها وسدها هو:
[ ص: 132 ] خشية إفضائها إلى المحرم، فمتى غلب على الظن وقوع مفسدة راجحة بسبب تلك الوسيلة، فإنها تحرم ويجب سدها
>[42] .
وبالمقابل، فإن الحيل إنما كانت أخص من الذرائـع، لكونـها مقتصرة على نوع معين من الذرائع، وهـو ما كان مقترنا بالقصـد إلى إبطال الأحكام الشرعية وقـواعـدها، ولذا صار التعويل في إبطالها على وجود ذلك القصد وتحققه، من هنا جاء كلام العلماء في الحيل مدرجا في كلامهم عن الذرائع
>[43] .
وقد ذكر بعض العلماء المعاصرين فرقا آخر، وهو أن الحيل تكون في العقود فقط، والذرائع تكون في العقود وغيرها
>[44] ، ويمثلون لذلك بمثال الهروب من الزكاة بالهبة، كما يمثلون كذلك بهبة المال فرارا من وجوب الحج، وبإنشاء السفر في رمضان هروبا من الصيام أو إنشائه لأجل القصر والجمع ونحو ذلك، ولم يرتض الأستاذ فيصل الحليبي هذا الفرق لعدم نص العلماء المتقدمين عليه، كما أن الأمثلة لا تسعفهم
>[45] .
[ ص: 133 ] علاقة الحيل بأصل اعتبار المآل:
تشكل الحيل من حيث حقيقتها أو حكمها إحدى القواعد الأساسية التي ينبني عليها أصل اعتبار المآل، وذلك لكونها لا تخلو في كل جوانبها من نظر إلى العاقبة المتوقعة للفعل المتوسل به
>[46] ، فإعمال قاعدة الحيل هذه إنما هو إعمال لقاعدة النظر في المآل عينها، والحكم فيها متحد، إذ الأولى فرع عن الثانية، ولايخالف الفرع أصله في حكمه، وإلا ماكان ليصح التفريع، إذ ليس "التحيل" جزئية من عموم أصل النظر في المآل، وإنما هو قاعدة من قواعده المتفرعة عنه التي بها يتحقق معناه ومناطه في الخارج.
ولأن أصل النظر في المآل، مبدأ عام، يندرج فيه القواعد لا الجزئيات التي تتضمن معنى الأصل كاملا، لأنه أعم
>[47] .
[ ص: 134 ]