المطلب الثالث: تأصيل فقه الموازنات:
- التأصيل من القرآن الكريم:
قال تعالى:
( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة:219)، فهذه الآية تعتبر العمدة في التأصيل لفقه الموازنة، وقد قال الإمام عقب هذه الآية: "وعلى هذا استقرت الشريعة بترجيح خير الخيرين، ودفع شر الشرين، وترجيح الراجح في الخير والشر مجتمعـين"
>[1] ؛ ومن هنا قال بأن "الشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا"
>[2] .
[ ص: 143 ]
الآية الثانية:
( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ) (الكهف:71).
فخرقها "صاحب السفينة لينتفع بها أهلها مرقوعة، فإن ذلك خير لهم من ذهابها بالكلية"
>[3] .
الآية الثالثة:
( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) (التوبة:19).
- التأصيل من السنة النبوية الشريفة:
السنـة النبوية زاخرة بالشـواهد الدالة على هذا الفقه، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من نزل أحكام الله على الواقع، ومن شروط المنـزل للأحكام الموازنة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم خير من وازن، لذلك سأستقي بعض الموازنات بغية التمثيل فقط، وإلا فالإمام يعتبر هذا الفقه متفقا عليه بين العقلاء مما لا يتطلب استدلالا عليه.
1 - إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وأمثـاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منـكره بنوع من عقابه، مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفـور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه
>[4] .
[ ص: 144 ]
فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل بعدما وازن بين أمرين اثنين:
الأول: مصلحـة قتل المنافقـين، الذين يسعون في إفساد حال المسلمين كافة.
والثاني: المفسدة المتوقعة مآلا، والمتمثلة في التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه بالامتناع عن قتل المشركين من خلال الموازنة بين كفتي المصلحة المرجوة والمفسدة المرفوضة، فوجد أن مفسدة المآل أغلب من مصلحته، فامتنع عن قتلهم التفاتا منه إلى المآل الغالب، وتركا لمصلحة الأصل المرجوحة.
>[5]
ويقول الإمام ابن تيمية ممثلا لمثل هذا الفعل: "مثل النبي صلى الله عليه وسلم مثل طبيب دخل على مريض فرأى مرضه فعلمه، فقال له: اشرب كذا، واجتنب كذا، فحصل غرضه من الشفاء.
والمتفلسـف يطول معه الكـلام في سبب ذلك المرض وصفتـه وذم ما أوجبه، ولو قال المريض: فمـا الذي يشفيـني منه؟ لم يكن له بذلك علم تام
>[6] .
2 - استعمال النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، رضي الله عنه، على الحرب منذ أسلم، وقال:
( إن خالد سيف سله الله على المشركين ) >[7] مع أنه
[ ص: 145 ] أحيانا قد كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إنه مرة قام ثم رفع يديه إلى السمـاء وقال:
( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) >[8] لما أرسلـه إلى بني جذيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وداهـم النبي صلى الله عليه وسلم وضـمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلـح في هـذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.
وكان أبو ذر، رضي الله عنه، أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
( يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم ) >[9] ، فنهى أبا ذر عن الإمارة والولاية، لأنه رآه ضعيفا، مع أنه قد روي:
( ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر ) >[10] .
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه، الذين بعثه إليهم - على من هم أفضل منه - وأمر أسامة بن زيد لأجل طلب ثأر أبيه، وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مع أنه قد يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم
[ ص: 146 ] والإيمان"
>[11] ؛ فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والأخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررا فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينا
>[12] .