المقاصد العامة للشريعة الإسلامية
إن اللجوء إلى ما يعرف بالمقاصد العامة للشريعة الإسلامية يشكل محورا أساسيا أو جوهريا في تكوين الإطار العام للرؤية الحضارية والحراك الإسلامي، سواء في نطاق السياسة والعلاقات الدولية، أو تجاه مكونات المجتمع الدولي، أو في بقية مجالات الحياة.
وقبل الخوض في تحليل العلاقة بين المقاصد العامة للشريعة ومقاصد وأهداف المنظمات الدولية كأحد مكونات العلاقات الدولية والمجتمع الدولي، لا بد من تحديد ماهية المقاصد وطبيعتها.
- ماهية المقاصد العامة للشريعة الإسلامية:
يرى بعض الباحثين أنه "لم تحظ مقاصد الشريعة بتعريف دقيق جامع مانع"
>[1] ، وإنما تم التركيز على الغايات العامة، أو جوهر الرسالة الحضارية للشريعة. فالشاطبي، مؤسس علم المقاصد، اكتفى بالقول: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا"
>[2] . أي
[ ص: 48 ] مصلحة العباد في الدنيا والآخرة. ويشير البعض الآخر من علماء المسلمين إلى أن "المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صـلاحها بصلاح المستخـلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة"
>[3] .
وقد لخص أحد الباحثين المعاني، التي تداولها العلماء في موضوع المقاصد العامة للشريعة، نستعرض أهمها فيما يأتي
>[4] :
- عبر البعض عن المقاصد بمطلق المصلحة، سواء أكانت هذه المصلحة جلبا لمنفعة أم درءا لمفسدة، أم كانت مصلحة جامعة لمنافع شتى، أم كانت تخص منفعة معينة أو بعض المنافع القليلة والمحصورة، وهو ما عبر عنه ابن القيم الجوزية بقوله: "فإن مقاصد الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها"
>[5] .
[ ص: 49 ]
- كما عـبر البعض الآخـر عنها بـ "نفي الضرر، ورفعه وقطعه"، أو "رفع المشقة". وعبر عنها آخرون بـ "رفع الحرج والضيق، وتقرير التيسير والتخفيف".
وبصورة عـامة، فإن التعريفات أو المفـاهيم تراوحت ما بين مفاهيم أو تعاريف تأتي في نطاق "المصلحة العامـة"، مثل ما عبر عنـه ابن القيم، أو جاءت في إطار الكليات الشرعية الخمس الشهيرة، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
ولا شك أن مجمل هذه المقاصد تدور حول "مصلحة العباد" وعمارة الكون والصالح الإنساني العام. ومن هنا، فإن معنى المقاصد يدور في فلك التعاون على صلاح أو مصلحة وخير الإنسانية، وإصلاح الكون، وتنمية المجتمع الإنساني، والتعايش البشري، وإقامة العدل في الأرض.
ويلخص العلامة يوسف القرضاوي هذه المعاني بقوله: "فمن المعلوم أن أحكام الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد، وإقامة القسط بينهم، وإزالة المظالم والمفاسد عنهم"
>[6] .
وفي ضوء ما ذكر حول جوهر المقاصد العامة للشريعة الإسلامية "مصلحة العباد" يمكن استخلاص الأسس والخصائص التالية لفقه المصالح
[ ص: 50 ] وأهدافه، والتي يعبر عنها العلامة فتحي الدريني في كتابه القيم "خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم"، وهذه الخصائص تشكل أسسا وأرضية للرؤية الإسلامية تجاه المنظمات الدولية، وهي تتمثل فيما يلي
>[7] :
1- الاجتهاد والتشريع في السياسة والحكم:
يشير أ.د فتحي الدريني إلى ماهية ودور الاجتهاد والتشريع في السياسة والحكم، واللذان يشكلان مصدرا أو عنصرا أساسيا في تحديد أسس ومنطلقات أو مصـالح التعامل مع المنظمـات الدولية بقوله: "هذا فضلا عما يفرضه المنهج الأصولي في الاجتهاد والتشريع، من أن يكون للظروف المتغيرة الملابسة اعتبار ووزن في الاستدلال، ولا سيما ظروف هذا العصر الذي نعيشه... تثبت وجـوب اعتبـار تغاير الظروف في الاجتهاد التشريعي، ولا سيما في السياسة والحكم، لتعلق مصير الأمة بذلك.... والاجتهاد التشريعي في السياسة والحكم قائم على
[ ص: 51 ] أساس الموازنة والترجيـح، الذي يعتمد العنـصر العقلي المتخصص، كلما اقتضى الأمر ذلك، وبالنظر إلى طبيعة المصالح المتنوعة المعروضة، تحريا للعدل في الحكم، وتحصيلا للمصلحة المعتبرة شرعا، وهذا جوهر الاجتهـاد التشـريعي في التدبـير السيـاسي على ما يقرره المحققون من الأصوليين"
>[8] .
ويتم في ضوء مقاصد وغايات التشريع الإسلامي، كما يحدد الدريني، "تدبير الحياة الإنسانية على وجه هذه الأرض، تعبيرا أمينا عن مقتضى استخلافها فيها، بما يمسك عليها كيانها، ويجنبها أسباب التهافت والاضطراب، لا سيما على الصعيد العالمي، ويقيمها على أساس من العدل الشامل المسيطر، وأصول الفضائل، والأمن المستقر، والتواصل الحضاري المستمر في دائرة الخير الإنساني العام، أداء لأمانة التكليف، بأوسع معانيه وأبعاده من الشمول موضوعيا وإنسانيا وقطريا وعالميا"
>[9] .
2- استخدام خصيصة المعقولية والمنطقية وما يتفرع عنها في التشريع السياسي الإسلامي:
والمقصود بالمنطقية: "ما تقتضيه أصول التعقل الإنساني العام، من الاتساق بين المعاني، بحيث تنتظم في مفاهيم واحدة، لا تجد بينها ما ينقض
[ ص: 52 ] بعضها بعضا في حكم العقل، بحيث يثبت إحداها ما ينفيه الآخر في موضوع معين". و"معقولية" هذا التشريع الإسلامي "كانت أساسا لثقة الإسلام بالطاقات العقلية المتجددة، وهذا مما لا يفتقر إلى برهنة، إذ أصبح من المتعين على العقل الإنساني المتخصص، بعد انقطاع الوحي، واختتام الرسالات السماوية... أن ينهض بمهمة تدبير الحياة الإنسانية على ضوء تلك المقررات، وفي نطاقها، بـما أوتي من ملكات ومواهب مقتدرة.... ويرى الإمام الغزالي أن "قـوام الاجتهـاد التشريعي العقـل والشرع معا، فهمـا صنـوان لا ينفصـلان". ومؤدى (طرح) الإمام الغزالي أن ما يتسم به هذا التشريع من "المعقولية" أو "المنطقية" يستلزم حتما وبالضرورة اعتماد "العقل" أساسا في التصرف في مقرراته، وتبين مقاصده، واستملاء فلسفته وروحه..... هذا، وليس اعتماد العقل سبيلا متعينا للاجتهاد التشريعي فحسب، بل إنه منطق الإسلام، إذ يتجه إلى اعتماده أساسا في ذلك، لا سيما فيما لا نص خاصا فيه، كالتشريع السياسي غالبا"
>[10] .
ومن هنا، فإن خاصية "المنطقية" و"المعقولية" الإسلامية تستخدم كمنهج أساس في التعامل في مجال العلاقات الدولية (بما فيها التعامل مع وحدات العلاقـات الدوليـة، مثـل: المنظمات الدولية)، وذلك
[ ص: 53 ] للاجتهاد في طبيعة المصـالح الإنسانية بعمومها، والإسلامية بخصوصها، وبالتالي التحرك في اتجاه صوب هذه المصالح، وبالأسلوب الذي يعمل على تحقيقها وتطبيقها إيجابيا.
3- اعتماد الإسلام "مبدأ التغيير والإصلاح" في الواقع والمجتمع الإنساني:
إن اهتمام الإسلام بالإصلاح والتغيير الإيجابي هو جزء من الرسالة العالمية للإسلام، وهو يعكس اهتمامه بالإيجابية والفعالية في الحياة والمجتمع الإنساني. إن هذا المبدأ ظهر في الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، كقوله تعالى:
( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) (سبأ:28) ، وقوله تعالى:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11).
عموما، إن اعتماد هذا المبدأ يجعل هناك حاجة للتعامل والتعاون مع المنظمات الدولية، حيث يدعو الإسلام إلى عدم قبول الظلم العالمي، وضرورة مقاومته، وعدم الاستكانة إليه والرضا به، وبالتالي التعامل مع أدوات التغيير، مثل: المؤسسات والمنظمات الدولية، في إطار دورها الإيجابي الإنساني لتحقيق التعاون والسلم ومقاومة العدوان.
وكذلك، فإن السعي لحماية المنظمات الدولية من الاستغلال السلبي، وتحويلها إلى أدوات هيمنة بيد مجموعة قوى دولية، تشكل دعوة أو مطلبا إسلاميا في حماية وعمران المجتمع الإنسـاني، خاصة "أن أحكام الشريعة
[ ص: 54 ] إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد، وإقامة القسط بينهم، وإزالة المظالم والمفاسد عنهم"
>[11] .
من ناحية أخرى، فإن منطق الإسلام لا يعرف "الانعزالية" و"السلبية" أو "تهميش الذات" و"التقوقع" تجاه الوقائع والأحداث في حد ذاتها، بل "الإيجابية" والسعي للتغيير والإصلاح، والفعالية في الحياة، ولذلك لا يقف مكتوف الأيدي أو سلبيا نحو تحقيق ما من شأنه تحقيق العدل والمصلحة الإنسانية العامة، حيث إنه "من المقرر شرعا، أن الحكم لم يشرع إلا وسيلة لتحقيقهما (العدل والمصلحة) عملا، وهذا من أصل مقومات التقدم الإنساني"
>[12] .
إن الدين الإسلامي يدعو إلى إزالة المعوقات التي تعترض الصالح العام الإنساني "بالقضاء على كل مناشيء البغي والعدوان والفساد بالأرض، وسائر المعوقات والعقبات، ومقاومتها بأغلى التضحيات الجسام، بالأموال والأنفس، إقرارا للمثل العليا الخالدة، وللحق، والعدل، والسلم والأمن القائم عليها، في العالم كله... لا نعلم أساسا للتقدم الإنساني غـير هذا. وأيضا، لم يجعل الإسلام الاختلاف في الدين "عقبة" تحول دون ذلك، ذهابا منه إلى أن توحيد الناس على عقيدة، أمر محال؛ بحكم سنة
[ ص: 55 ] الاختلاف، كما جاء في قوله تعالى:
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ) (هود:118) ، ولكن توحيـدهم حكما وعدلا، أمر ممكن، إذ ليس بعد العدل إلا الظلم، وهو عدو الإنسانية الأول.... وإن إقامـة الحياة الإنسـانية الفاضـلة، بكل قيمها وفضائلها، وعمران الدنيا، وإقامة نظامها على الحق والعدل الشامل المسيطر، في ظل من العبودية لله تعالى، هذا هو العمل الصالح الذي هو غاية الوجود الإنساني".... كما "جمع الإسلام بين العقل والعلم، والإرادة (الإنسانية) الحرة، فضلا عن الشرع العـادل، والفضائل الإنسانية، والتوازن الفطري، وهـذه متطلبات أساسية عملية للتقدم الإنساني والحضاري"
>[13] .
4- الإسلام، بما يشمله من تشريع سياسي، تميز بخاصية "الشمول الموضوعي"، والإنساني والفطري والزماني والمكاني في جميع شؤون الحياة؛ لاستعلائه على العنصريات والبيئات والأزمنة... وقد انعكس أثر هذا الشمول على مفهوم "المصلحة العامة"، التي هي أساس التشريع السياسي، بما هي غاية الحكم فيه، فاتسع مفهومها حتى شمل "المصلحة الإنسانية العليا"... وعلى هذا، فلم تعد "المصلحة العامة" في الإسلام،
[ ص: 56 ] مصلحة إقليمية، محدودة بأمة أو شعب أو عنصرية أثرة، مما يؤكد هدف سياسته الإصلاحية في العالم"
>[14] .
5- من خصائص هذا التشريع الإسلامي خاصية "التوازن" ما بين المصلحة الفردية والمصلحة الإنسانية عموما، فهو "يعترف بالمصالح الفردية (الخاصة)... عدلا، شريطة ألا تتصادم مع المصلحة الإنسانية العليا؛ لأنهما كليهما يمثلان "القيمة الكبرى" التي يدور عليها التشريع كله، ويوجب التنسيق بينهما في تعامله مع الدول، يرشدك إلى هذا أن القرآن الكريم قد أوجب "التعاون بين الشعوب والأمم على الصعيد العالمي، كما جاء في قوله تعالى:
( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13).
ومعلوم بداهة أنه لا يتصور أن يتم هذا "التعاون" إلا على أساس الاعتراف بمصالح الأمم المسالمة، كما جاء في قوله تعالى:
( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2)... ولعل أبين شاهد على هذا، ما ورد في القرآن الكريـم من أسباب إيثار المصلحة العليا للمجتمع الدولي على ما يقضي به الإسلام من نصرة المسلم للمسـلم المضطهد في بلد غير إسـلامي يربطه بالمسـلمين عهد وميثاق، مما يعتبر أصلا شرعيا لإيثار الصالح الإنساني العام على الصـالح الخاص؛ وذلك لأن الإسـلام يرى أن قـدسية العهود والمواثيـق،
[ ص: 57 ] ووجوب الوفاء بها، حتى للأعداء، من أهم أسباب صون السلم العالمي، وحماية المصلحة الإنسانية"
>[15] .
6- خاصية العالمية (الفعالية في الكون):
عالمية الإسلام وإنسانيته، وحرصه على الإصلاح والمصلحة الإنسانية العامة، تدعو إلى التعاون مع جميع الأدوات التي تسعى إلى تحقيق السلم والأمن والعدل الدولي، وخير ووحدة الإنسانية. ومن أهم هذه الأدوات في الوقت الحالي المنظمات الدولية المعاصرة، فالإسلام يطرح مبدأ التواصل "للتعارف" و"التعاون"، كأساس في علاقاته الحضارية مع (الآخر)، فالآية الكريمة
( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، وقوله تعالى:
( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2)، تحددان أهم أسس التواصل الحضاري والإنساني وغاياته.
إن التواصل الحضاري العام هو ضرورة مكملة لمبدأ التعاون الدولي، كما أن التعاون في المجال الدولي، وتبادل المنافع في دائرة الخير الإنساني العام، وعلى أسـاس المسـاواة والعـدالة، تدعيما للحضـارة الإنسانية، تشكل مساحة إسلامية وأمرا شرعيا، لقوله تعالى:
( وتعاونوا على البر والتقوى ) .
[ ص: 58 ]
وعليه، فإن مبدأي التواصل الحضاري أو التعاون الإنساني في ضوء عالمية الإسلام وإنسانيته يشكلان قاعدة انطلاق أساسية في التعامل مع المنظمات الدولية.
بناء على ما سبق، يمكن أن يقال: إن المقاصد العامة للشريعة تشكل أرضية أساسية في بناء المنظور الإسلامي تجاه المنظمات الدولية، طالما اتجهت نحو "مصلحة العباد" أو "الصالح الإنساني العام" أو "إصلاح المجتمع الإنساني وخيره"؛ أي طالما كانت تتجه نحو تحقيق "الأمن والسلام" و"التعاون" نحو بناء وتنمية المجتمع الإنساني العادل والخير عموما، والمجتمع الإسلامي خصوصا.
وربما من المهم الإشارة هنا إلى مفارقة حول مفهوم أو هدف تحقيق "الأمن والسلام"؛ في المنظمات الدولية هو مفهوم أو هدف وظيفي (Functional) قابل للتغيير والتعديل إذا قرر أعضاء هذه المنظمات الدولية تغييره أو تعديله، مع المحافظة على وجود واستمرارية هذه المنظمـات، بينمـا في المنظـور الإسـلامي فإن مفهـوم أو هدف "الأمن والسـلم" هو جزء عضوي أو بنيوي من الكينونة الحضارية للرسالة الإسلامية لا يمكن إلغاؤها أو تغييرها برغبة من أصحاب هذه الرسالة الإسلامية.
إن جميع هذه المقاصد والاعتبارات المذكورة سابقا تمثل تأطيرا أساسيا أو منطلقات وقواعد عامة للحراك الإسلامي، لبناء المنظور
[ ص: 59 ] الإسلامي تجاه المنظمات الدولية المعاصرة وأطر التعامل معها، وذلك منعا لانسحاب المواقف أو الأدوار الإسلامية من دائرة الفعالية في المجتمع الدولي ومؤسساته، ودائرة الحياة الإنسانية عموما.
وفي المقابل، يجب أن ترتبط المقاصد العامة للشريعة بضرورة التحقق من مآلات الأفعال
>[16] ، وبالتالي لا يكتفى بتحديد المقاصـد العـامة، وإنما يسعى للتحقق من ذلك عمليا أو فعليا، فالإيمان يرتبط بالعمل الصالح. ولذلك، فإن نتائج المشاركة في المنظمات الدولية
[ ص: 60 ] وممارساتها، سواء على الصعيد الداخلي للمنظمات أو الدور الدولي لها، هي التي تقرر مدى تحقق المقاصد العامة، ومدى تفعيل الدور الحضاري في المجتمع الإنساني، على أن ينسحب هذا الدور والفعالية ليس فقط على المجتمع الدولي، وإنـما أيضا ضمن دائرة توجيه هـذه المنظمات الدولية نفسـها، من خلال محاولة توجيهها وإخضاعها لمبدأ العدالة والمساواة في ممارساتها وقراراتها.
من جانب آخر، ربما كان من المناسب الإشارة هنا إلى علاقة نظرية القواعد الدولية الآمرة، التي تخضع لها أو التي يجب أن تلتزم بها المنظمات الدولية المعاصرة، وطبيعة المنظور الحضاري الإسلامي تجاه المنظمات الدولية.
عموما، كما يقول الباحث محمد الموسى في دراسته حول القواعد الدولية الآمرة، التي أشـار فيها إلى آراء بعض الباحثـين الغربيين فإنه: "لا يجوز -كما هو معروف- للدول ولا للمنظمات الدولية مخالفتها؛ لأنها تمثل مبادئ دولية عرفية حظرية"، كما يلخص ويستعرض في دراسته أهم هذه القواعد الدولية الآمرة وأفق الاتجاهات الدولية المعاصرة المؤيدة لها في
>[17] :
1- تحريم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
2- حماية حقوق الإنسان الأساسية.
3- الحق في تقرير المصير.
4- تحريم استخدام القوة والعدوان، وأن استخدام القوة من المنظمات الدولية في حالات معينة يجب أن يكون منضبطا وفق الالتزام بالقواعد المذكورة أعلاه.
عموما، يمكن القول: إن هذه القواعد، التي تخضع لها المنظمات الدولية المعاصـرة، تتوافق مع المقاصـد العـامة للشريعة الإسلامية، سواء من حيث حفظ الضروريات الخمس، أو من حيث الالتزام بالضوابط والأسس الأخلاقية التي فرضها الإسلام في الحرب، مثل: عدم
[ ص: 61 ] قتل المدنيـين، أو غير ذلك، على الرغـم من أن مقـاصد الشريعة، وكذلك مبادئها وممارساتها في العلاقات الدولية، بالإضافة إلى قواعدها الأخلاقية في الصراعات والحروب، سابقة بمئات السنين على هذه القواعد الدولية الآمرة.
من ناحية أخرى، إن هذه القواعد تشكل إطارا معاصرا أكثر قبولا وتفعيلا لتطبيق جوهر مقاصد الشريعة من قبل المنظمات الدولية التي تحتوي أعضاء كافة الأديان والملل. وكذلك تشكل هذه القواعد إطارا ضابطا ومقبولا لممارسات المنظمات الدولية بشكل يتوافق ومقاصد الشريعة الإسلامية ومبادئها الدولية.
[ ص: 62 ]