المبادئ العامة الإسلامية
في مجال العلاقات الدولية
هناك مجموعة من المبادئ العامة الإسلامية التي تؤطر الحراك الإسلامي الدولي تجاه بيئة أو نظام ومؤسسات المجتمع الدولي، (والتي منها المنظمات الدولية المعاصرة)، وهذه المبادئ تتلاقى في أحيان كثيرة مع طبيعة المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وهي منبثقة من النظام الإسلامي التشريعي، وتعبر عن جزء من سلامته ومنطقيته وصلاحيته.
ويعتبر تناول هذه المبادئ العامة جزءا من عملية توضيح طبيعة القواعد العامة الإسلامية، التي تحدد ماهية الرؤية والحراك الإسلامي تجاه المنظمات الدولية المعاصرة.
وأهم هذه المبادئ العامة ما يلي
>[1] [ ص: 63 ] :
1- وحدة الأصل الإنساني أو "الأخوة الإنسانية".
وما يقتضي ذلك من تحقيق قيم ومبادئ العدل والمساواة والحرية:
تقرر الشريعة الإسـلامية وحـدة الجنـس البشري وانتسـابه إلى أصل واحد هو آدم وحواء
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) (الحجرات:13)، وبدون تمييز بسبب لونه أو عرقه أو دينه. وبالتالي، فإن وحدة الأصل الإنساني هذه تقتضي العدل والمساواة في التعامل مع المجتمع الإنساني وأفراده، فالإسلام يدعو للعدل مع الآخرين، حتى لو كانوا أعداءه، بغض النظر عن دينهم، قال تعالى:
( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8).
كما أن الدين الإسلامي كفل مبدأ الحرية لأفراده، ورفض الاستعباد؛ على أساس مبدأ المساواة بينهم: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)، وأن تحقيق العدل والمساواة والحرية في العلاقات الدولية يعنـي اتخـاذ كل الوسـائل الممكنة لمنع الظـلم والفساد والتمييز ضـد كياناته أو وحداته فيها من جهة، والتعاون مع وحدات المجتمع الإنساني لجعل العدل والمساواة والحرية أساس نظام الحياة وجوهر القانون، الذي ينظم حياة المجتمع الدولي من جهة ثانية.
[ ص: 64 ]
وبذلك، فإن أي منظمات دولية معنية في دوافعها، أو تدعو إلى تحقيق العدالة والمساواة والحرية، مثل المنظمات الدولية في المجتمع الإنساني، تعتبر وسائل وأدوات ضرورية ولازمة للمساهمة في تحقيق تلك الأهداف والمبادئ، وبالتالي فإنها تعتبر جزءا من هيكلة المنظور الإسلامي، وفي الوقت نفسه جزءا من وسائله في تحقيق مبادئه وأهدافه.
2- السلم هو الأصل في العلاقات الدولية:
يحرص الإسلام في دعوته على بناء علاقاته الخارجية على أساس السلم أو السلام مع الآخرين من غير المسلمين، سواء أكانوا أفرادا أم دولا وكيانات دولية، وهذا هو الأصـل في علاقاته الدولية، طـالما أن الآخرين لم ينتهكوا هذا المبدأ
>[2] .
إن "السلم" أو "السلام" في الإسلام هو مبدأ وغاية حضارية كونية، ورسالة حضارية يدور حراكه الـدولي نحـو تحقيقها لبني البشر أو المجتمع الدولي. وبالتالي، فإن سياساته وعلاقاته مع المجتمع الدولي تتأطر بهذا المبدأ. وإن كل الأدوات أو الهيئات، مثل المنظمات الدولية المعنية بتحقيق "الأمن والسـلم الدوليين"، تمثل نقطـة التقاء مع الرؤية الإسلامية نحو عمل مشترك إنسـاني، يصب في مصلحة الخير الإنساني العام، بكافة دياناته ومعتقداته أو طوائفه.
[ ص: 65 ]
كما "أن السلام العالمي هو الهدف النهائي للنظرية الإسلامية في العلاقات الدولية، والوصول إلى هذا الهدف هو مطلب المستقبل لجميع الأمم، والطريق إليه مليء بالتحديات التي تفوق طاقة أمة بمفردها. وإن الإسلام يعلم كافة البشر أن باستطاعتهم دوما أن يتشاوروا وأن يتحاوروا ويتعارفوا من أجل اكتشاف الحقول المشتركة فيما بينهم، ولكي يعمقوا إدراكهم للمثل الإنسانية الفطرية التي تجمعهم، وليسهموا معا في بناء علاقات دولية بناءة تتسم بالإيجابية والموضوعية والمستقبلية، وبالعدالة قبل ذلك كله"
>[3] .
3- التعاون والاعتماد المتبادل:
يعد مبدأ التعاون والاعتماد المتبادل سنة من سنن الحياة الإنسانية، وهو ضرورة بشرية؛ حيث إن الإنسان "اجتماعي بالطبع"، لا يستطيع سد حاجاته أو القيام بمهـامه أو أهـداف وجوده بمفرده، فكان لا بد من التعـاون، وما ينتج عنه من عمـلية الاعتـماد المتبادل لتحقيق المصالح المشتركة.
وهذا الدين هو دين الفطرة، وهو الملائم لطبيعة الإنسان أو البشرية، كما تشير الآية الكريمة:
( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي [ ص: 66 ] فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30). فكان من الطبيعي أن تتناسق وتتلاءم أسسه ومبادئه مع الحياة الإنسانية وضروراتها.
ومن ناحية أخرى، فإن التعاون والاعتمـاد المتبادل هو غاية ووسيلة -أيضا- لهذا الدين، قال تعالى:
( وتعاونوا على البر والتقوى ) . ويتضمن الأمر بالتعاون تقرير الاعتماد المتبادل كسياسة عامة في تسيير العلاقات بين مختلف أطراف الوجود الإنساني بجميع مكوناته، بين الـدول أو المنظمات أو الأفراد، إلا أن التعاون والاعتماد المتبادل في ضوء الطرح الإسلامي منضبط بمنظومة القيم والمبادئ الإسلامية الأخرى كالعدالة والمساواة وغيرها، وإلا فقد تتحول علاقات "التعاون" والاعتماد المتبادل إلى نوع من التحالف والتكتلات نحو الهيمنة لصالح القوى وخدمة منافع الأقوياء من الدول، والتي تدفع الإنسـانية ثمنا لها. كما "أن هذا النمط من التعاون (المرتبط مع القيم) ضمن النظرية الإسلامية العامة للعلاقات الدولية، هو أحد عوامل التطور الاجتماعي والحضاري العام، وهو الذي يؤسس لبناء السلام الحقيقي بين مختلف الأمم والشعوب، ويحد من إمكانيات حدوث النـزاعات أو نشوب الحروب والصراعات فيما بينها"
>[4] .
[ ص: 67 ]
ويتخذ مبدأ التعاون والاعتماد المتبادل مستويات عدة، بدءا من الأفراد، إلى الكيانات والجماعات والدول. ومن هنا، فإن المنظمات الدولية هي أحد الكيانات الأساسية المعنية واللازمة لتحقيق "التعاون والاعتماد المتبادل" بين المصالح الإنسانية، وبالتالي هي إحـدى الهيئـات المعنية أو المستهدفة بالخطاب الإسلامي، الداعي إلى تحقيق التعاون البشري ضمن منظومة القيم الفطرية المنضبطة لتحقيق "الصالح الإنساني العام".
4- "العالمية"؛ "الدعوة"؛ "البلاغ" و"عولمة الرحمة":
الرسالة الحضارية الإسلامية رسالة عالمية؛ فهي "دعوة عالمية" للإنسانية والبشرية جمعاء، قال تعالى:
( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) . وهذا يقتضي من أصحاب هذه الرسالة الحضارية العالمية، التكليف بـ "البلاغ" بها للمجتمعات الإنسانية والمجتمع الدولي بجميع مكوناته (أفراد، حكومات، دول، منظمات دولية، ...إلخ). وإن مقتضيات "الدعوة" و"العالمية" و"البلاغ" الانفتاح والتواصل الحضاري مع (الآخر).
أيضا الرسالة الإسلامية معنية بـ "عولمة الرحمة"،
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، وبالتالي بناء العلاقات الدولية أو على مستويات أخرى على أساس من "التراحم"، وهو ما يشكل دافعا لتحقيق السلام والخير الإنساني.
[ ص: 68 ]
هذا كله يمثل إطارا عاما للرؤية والحراك الإسلامي الدولي تجاه المجتمع الإنساني أو الدولي بمكوناته، والتي منها "المنظمات الدولية" غير الإسلامية، فهذه المنظمات تعتبر غاية ووسيلة للحراك الإسلامي أو للدعوة والبلاغ الإسلامي، فهي غاية من حيث ضرورة إبلاغها بطبيعة ومضامين الرسالة الحضارية الإسلامية، ووسيلة من حيث إنـها تعتبر "منـبرا دوليا" يسـاعد أو يتشـارك في بعض جوانبه وأهدافه في السـعي نحو تحقيق "الخير أو الصالح الإنساني العام"، كما أنـها تعتـبر منـبرا لإبلاغ الرؤية الإسلامية الحضـارية في مختلف القضايا إلى مكونات وأعضاء المجتمع الإنساني.
إن تفاعل الرؤية الإسلامية في هذا المنبر لا ينفي أو لا يعني أن هذا "المنبر الدولي" ليست له قوانينه ولاعبوه الذين يتحكمون في حركته ودوره.
كما أن الرسالة الحضارية الإسـلامية معنية في رسـالتها العالمية ودعوتها بمحاربة الفساد في الأرض، وإعمار الكون، ومقاومة الظلم والعدوان، وهذا يتطلب جهودا جماعية ضخمة؛ مما يقضي بإقامـة تحالفات مع الدول والمنظمات والشعوب المعنية لتحقيق الخير والعدالة للإنسانية، وهو ما تـهدف له بعض المنظمات الدولية، من الناحية النظرية على الأقل.
[ ص: 69 ] 5- الوفاء بالعهود والمواثيق واحترامها:
إن العقد هو أساس التنظيم الدولي، فالمعاهدة الدولية التي أنشأت المنظمة الدولية أو الإقليمية المعاصرة، هي بمثابة عقد بين أطراف (دول)، والالتزام بمضمون العقد، أي تنفيذه بدون خداع أو تضليل أو تهرب يدعو الإسلام للالتزام به
>[5] ، طالما كان أساس العقد سليما.
من جانب آخر، فإن تحقيق الأمن والسلام للبشرية، وتحقيق التعاون والاعتماد المتبادل، والعدالة والخير للإنسانية، والتفاعل الإسلامي مع محيطه الدولي ضمن طبيعـة "العالمية" و"الدعوة" و"البـلاغ"، والسعي الإسلامي لمحاربة الظلم والعدوان والفساد في الأرض وإعمار الكون، يتطلب -كما أشرنا سابقا- جهودا ضخمة وجماعية، تشترك فيها الأمة الإسلامية مع الأمم الأخرى، ومع الدول والمنظمات الدولية المعنية بتحقيق الخير والصالح الإنساني العام.
إن هذا كله يحتاج إلى علاقات تعاون وتحالف وتعاقد بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى والمنظمات الدولية؛ حتى نتمكن من تحقيق هذه الغايات والقيم الإنسانية السامية التي يدعو لها الإسلام، وهذه العلاقات والتحالفات تقتضي إيجاد معاهدات واتفاقيات تنظم أشكال هذا التعاون،
[ ص: 70 ] وتحدد غاياته ووسائله ومجالاته، وتشكل مرجعا ضابطا لمنع حدوث المنازعات بين هذه الأطراف.
ومن هنا، فإن الإسلام معني تماما بالالتزام بهذه العهود والمواثيق، التي تعتبر جزءا من تنظيم العلاقات الدولية بين الأمة الإسلامية والمنظمات الدولية، والدول غير المسلمة، خاصة وأنه يؤكد على الالتزام واحترام العهود والمواثيق مع (الآخر) كجزء من حرصه على الصالح الإنساني العام، ومصالح الأمة الإسلامية، وقد أكد القرآن ذلك في قوله تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) (المائدة:1).
إن احترام العهـود والمواثيق جزء أصيل في النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية أو التعاون الدولي، وإن عقد المعاهـدات، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو العسكرية أو غيرها، بما يخدم الإنسـانية، هو ضرورة أسـاسية ضمـن آلية التعاون على البر والتقوى وإعمار الكون.
وبالتالي، فإن التفاعل الإيجابي تجاه المنظمات الدولية، التي تهدف لتحقيق العدالة والسلام، وإعمار الكون، ومحاربة الفساد والظلم والعدوان، ومنع الحروب والصراعات بين الدول، هو جزء أصيل في الرؤية الإسـلامية من حيث المبدأ، ما دامت في إطار هـذه الغايات والمقاصد والأهداف.
[ ص: 71 ]
وهذه الغايات والمقاصد حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل قبل الإسلام في "حلف الفضول" لدفع الظلم، وأقره في مرحلة ما بعد الإسـلام، وقـال فيه:
( لقد حضرت بدار عبد الله بن جدعان حلفا ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت ) >[6] .
6- "مبدأ المسؤولية الجماعية" أو "التضامنية":
يرتبط الدخول في المعاهدات والاتفاقيات الدولية، التي تسعى للخير الإنساني العام وتحقيق الأمن والسلام والعدالة، بمبدأ إسلامي آخر هو مبدأ "المسؤولية الجماعية" أو "التضامنية" بين وحدات المجتمع الإنساني لمحاربة الفساد والعدوان والظلم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول لنصرة الضعيف ومقاومة الظلم، وكذلك سعيا لتحقيق الخير الإنسـاني العام، كما في قوله تعالى:
( وتعاونوا على البر والتقوى ) .
ومبدأ المسؤولية الجماعية أو التضامنية أوضح ما يكون في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقـوا من الماء، مروا على من فوقهم، فقالوا: [ ص: 72 ] لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) >[7] .
كما أن دعوة الإسلام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدور جوهرها على مطالبة كل مستطيع بمحاربة الفساد والظلم وتحقيق الخير والصلاح، والتشارك والتضامن أو التعاون الجماعي، فالأمر بالمعـروف والنهي عن المنكر هو تحمل المسؤولية الفردية والجماعية في تحقيق الإصلاح ومحاربة الظلم والخيرية للبشرية، يقول تعالى:
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (آل عمران :104) ، ويقول تعالى:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل:125). ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم :
( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) >[8] .
"عموما، إن المسؤولية الدولية في الشريعة الإسلامية تبدو جلية من خلال القرآن الكريم، حيث لا بد من تحمل التبعات، أي تحمل نتائج المخاطر المحدقة بالإنسان والبشرية. إن قتل النفس البشرية الواحدة - بغير حق- يعني قتل الناس جميعا، هذه أهم القواعد في المسؤولية الوطنية
[ ص: 73 ] والدولية. وفي حجة الوداع وضع الرسول صلى الله عليه وسلم الأساس الشرعي للمسؤولية الدولية، عندما حدد حرمة الدماء والأموال، كما أوصى بأهل الكتاب خيرا ومحبة لمنع الضرر عنهم"
>[9] .
إن المسـؤولية الجماعية أو التضـامنية بين الدول تبرز "متى وقع الضرر على دولة معينة أو مجموعة من الدول، فالمسؤولية تقتضي في الحال هذا التضـامن مع الجهـة المتضررة والدفـاع عن مصالحها في إطار العدالة والمساواة"
>[10] .
ومن هنا، فإن المنظور الإسلامي يرى في المنظمات الدولية، التي تسعى إلى تحقيق السلام والأمن الدولي، والخير الإنساني العام، أنها جزء من مبدأ المشاركة أو المسؤولية الجماعية أو التضامنية، بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى لمحاربة العدوان والظلم والفساد، وتحقيق العدالة والسلام والخير الإنساني العام في الأرض.
كما أن عدم التفاعل أو الفعالية الإيجابية تجاه المنظمات الدولية في إطار تحقيق هذه الغايات سيؤدي إلى الإضرار بالجميع وبوحدات ودول المجتمع الإنساني المسلمة وغير المسلمة، ويؤدي إلى نشر الحروب والصراعات، وخاصة من قبل أصحاب القوة والجبروت والكيانات القوية على الكيانات الضعيفة أو المستضعفة.
[ ص: 74 ]