القواعد الأصولية والفقهية
تمتاز طبيعة الدين الإسلامي بالصلاحية لكل زمان ومكان، و"نصوص الوحي المنـزل - بفضل ما تزخر به من قيـم كونية متعالية، ومبادئ إنسانية سامية لنظام واقعي أفضل- تستطيع أن تحتفظ بقدرتها على التكيف مع مختلف التحـولات الإيجابية التي تحاول النظـم الوضعية المعاصرة أن تصل إليها"
>[1] .
ومن هنا، كان لا بد لهذا الدين من مقومات معينة تجعله قادرا على التعامل مع متغيرات ومستجدات كل عصر، وقد قام الفقه الإسلامي على مجموعة من (الضوابط) والقواعد الأصولية والفقهية التي توفر له الإمكانية والقدرة على التعامل مع مستجدات العصر ومتغيراته، بحيث تكون بمثابة المرجع والضابط العام لآلية "الاجتهاد" في التعامل مع المتغيرات الجديدة، وتوفير الديناميكية اللازمة له، بما يجعله مرنا متجددا قادرا على استيعاب المتغيرات بما يلبي الحاجات البشرية ومتطلباتها، خاصة في ضوء اختلاف موازين القوى البشرية، سعيا نحو تحقيق مقاصد الشريعة.
[ ص: 75 ]
وهذه القواعد هي بمثابة مصادر تشريعية وضوابط للعلاقة بين الرؤية والحراك الإسلامي وطبيعة الواقع بمتغيراته المختلفة.
وأهم هذه القواعد أو الضوابط، التي تعطينا إطارا أو تشكل مصدرا للمنظور الإسلامي تجاه المنظمات الدولية، تتمثل بما يلي:
1- الاستصلاح (المصالح المرسلة):
ويعني: "استنباط الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع، بناء على مراعاة مصلحة لا دليل من الشارع على اعتبارها ولا على إلغائها"
>[2] .
ويشير أحمد بو عود إلى أن الإرسال قد يراد به "أن يوكل أمر تقدير المصلحة إلى العقول البشرية، دون التقيد باعتبار الشارع أو عدم اعتباره لها... والمقصود بالعقول البشرية الاجتهاد البشري، من خلال ما كسب من معارف وعلوم وتجارب وفهم للواقع.
ويتقيد المجتهد في حكمه على ما يستجد من أحداث مختلفة (مستجـدات العصر) بالمصـالح والأهـداف، التي رمت إليها الشـريعة الإسلامية.
وعندما يوكل أمر تقـدير المصلحة إلى العقول البشرية، أو لا يتقيد في حكمه على ما يستجد من الأحـداث بالقياس على أصل منصوص،
[ ص: 76 ] فإنه لا يعني طبعا إهدارا للنصوص... وقد اختلف في الأخذ بالمصالح المرسلة بين معتبر لها وغير معتبر، وقد يكون لمن قال بعدم الأخذ بها من الأسلاف عذره في ذلك الزمان. ولكن اليوم فإن الغفلة عنها تعني أن الشريعة عاجزة عن مواكبة المستجدات ومتطلبات الحياة، غير عابئة بمصالح الناس وخيرهم الذي هو أعلى مقاصد الشريعة، وبالتالي يناقضون ميزة الشريعة الإسلامية في صلاحيتها لكل زمان ومكان"
>[3] .
يقول عبد الوهاب خلاف عن دور المصلحة المرسلة: إنها "أخصب الطرق التشريعية فيما لا نص فيه، وفيها المتسع لمسايرة التشريع تطورات الناس، وتحقيق مصالحهم وحاجتهم"
>[4] . ويقول القرضاوي، أيضا: "وجمهور فقهاء المسلمين يعتبرون المصلحة دليلا شرعيا يبنى عليها التشريع أو الفتوى أو القضاء. ومن قرأ كتب الفقه وجد مئات الأمثلة من الأحكام التي لم تعلل إلا بمطلق مصلحة تجلب أو ضرر يدفع"
>[5] .
"إن حاصل المصلحـة المرسـلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب
[ ص: 77 ] "ما لا يتم الواجب إلا به"، فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد"
>[6] .
إن العمل بالمصالح المرسلة (الاستصلاح) يدور في جوهره على قواعد وأطر تحدد طبيعة الدواعي من استخدامها، وهذا الجوهر هو الذي يفتح الباب على كيفية استخدام المصالح المرسلة في ظواهر ومستجدات العصر، ومنها ظاهرة المنظمات الدولية المعاصرة.
2- قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد:
إن "درء المفاسد وجلب المصالح هو مقصود الشارع الأعظم، وهذا المقصود حول اعتبار الشارع في تنـزيل الأحكام على الوقائع، بيد أن حدوث الوقائع تكون المصـالح فيه مشوبة بالمفـاسد، بحيث لا يكون فعل في الوجود أبدا خـالص المصلحة أو المفسـدة، إذ إن المصالح الخالصة عزيزة الوجود"
>[7] .
ويشـير بعض العلمـاء إلى أنه حـتى يحقـق الوصف المصـلحة أو المفسدة لا بد من
>[8] :
[ ص: 78 ]
- أن يكون النفع أو الضرر محققا مطردا.
- أن يكون النفـع أو الضرر غالبا واضـحا، تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء.
- أن لا يمكن الاجتزاء عنه في توصيل الصلاح وحصول الفساد.
- أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر، مع كونه مساويا لضده، معضودا بمرجح من جنسه.
وأهمية هذا المحور تتمثل، كما قال الشاطبي، في جعل جوهر جلب المصالح المعتبرة ودرء المفاسد إقامة الحياة الدنيا للحياة الأخرى، إذ يقول: "المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية"
>[9] .
وعليه، فإن عملية الحراك نحو جلب المصـالح ودرء المفاسد هي حركة الخيرية والبناء للصالح الإنساني العام، الذي تسعى إليه الرسالة الحضارية الإسلامية.
إن هذه القاعدة تحدد إطارا عاما ضابطا للمنظور الإسلامي وحراكه تجاه المنظمات الدولية في إطار تحقيق جلب المصالح أو المنافع ومنع المفاسد والضرر لصالح الإنسانية عموما، والأمة الإسلامية خصوصا.
[ ص: 79 ] 3- قاعدة "تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال":
يرى العلماء أن الأحكام والفتـاوى الشرعية، التي تقوم على الأعراف ودواعي المصلحـة، قـابلة للتبدل بتغير الظروف والمكان والزمان، بما يخدم ويحقق المصلحة الإسلامية. ولكن التغير هنا لا يتعلق بتغير الأصول والثوابت الشرعية.
وهذه القاعدة مهمة جدا في التعامل مع الظواهر والمستجدات الإنسانية المرتبطة بحياة الناس ومعاشهم عموما؛ لما يعتريها من تبدل وتغير أو نشوء جديد. وطبيعة تغير هذه الظواهر الإنسانية هو جزء من طبيعة حياة الناس، وتنظيم وتسهيل معاشهم، ونظام المعاملات في حياتهم.
وتعتبر ظاهرة المنظمات الدولية من هذه الظواهر والمستجدات الإنسانية التي نشأت لخدمة حياة الناس، وحفظ أمنهم، والمساهمة في رعايتهم، وتسهيل سبل معاشهم، وتلبية احتياجاتهم.
وحيث إن ظاهرة المنظمات الدولية ظاهرة إنسانية معاصرة، فإنه يمكن النظر إليها وفق الأحكام الإسلامية الخاصة بقاعدة تغير اعتبارات الحال والزمان، وتدخل هذه الظاهرة ضمن دائرة الأحكام الاجتهادية التي تراعي مستجدات ومصالح الأمة، وإن كان هذا التغيـير "تبدلا في الحكم، إلا أنه لا يعتـبر في حقيقته تبدلا لحكم شرعي ثابت عن الأصل؛ إذ هو من أساسه ليس إلا تطبيقا لأوجه متعددة لحكم شرعي ثابت"
>[10] .
[ ص: 80 ]
يقول ابن عابدين في رسالته "نشر العرف": "كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ لتغير عرف أهله لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحـكم على ما كان أولا للزم المشقة والضرر بالناس، وخالف قواعد الشريعـة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد"
>[11] .
ويقول محمد الزحيلي: "اتفقت كلمة المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية التي تتلاءم وأوضاع الزمان ومصلحة الناس وجب تغييرها، وإلا كانت عبثا وضررا، والشريعة منـزهة عن ذلك ولا عبث فيها، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعـة لتأسيسها بنصـوصها الأصـلية الآمرة والناهية،... فهذه لا تتبدل بتبدل الزمان، بل هي أصول جاءت بها الشريعة لإصلاح الزمان والأجيال، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها، قد تتبدل باختلاف الأزمنة والمحدثات"
>[12] .
ويرى ابن القيـم في كتـابه "إغـاثة اللهفـان" طبيعـة الأحكام بأنها نوعان
>[13] :
[ ص: 81 ]
- النوع الأول: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحـدود المقررة بالشـرع على الجرائم، ونحـو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
- والنـوع الثـاني: ما يتغـير بحسب اقتضاء المصلحة، زمانا، ومكانا، وحالا".
وبناء على ما ذكر، "فإن تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال هو عمل شرعي في غاية الشرعية، ومنتهى ملازمة تعاليم الوحي وهديه؛ لأن الذي غير تلك الأحكام في الحقيقة هو الشارع، وذلك عندما أمر بتغيير الأحكام إذا تغيرت الأحوال والظروف، فكل ما يطرأ من تغيير فهو عائد إلى تنفيذ ما أمر به الشرع، وتطبيق ما دعا إليه من جعل بعض الأحكام تدور مع المكان والزمان والحال، لتحقيق الصلاحية الإسلامية والدوام الشرعي، أحكاما ومصالح ومقاصد"
>[14] .
يستخـلص مما سبـق أن التغـير في الأحـكام بحسـب الزمان أو المكان أو الظروف والأحـوال مرتبط بتحقيق المصلحة (العامة)، وهذه المصلحة مرتبطة بضوابط معينة.
[ ص: 82 ]
ومن هنا، فإن الرؤية الإسلامية تجاه المنظمات الدولية وطبيعة التعامل معها مرتبط بالمصلحة، سلبا أو إيجابا، بحسب الظروف والزمان والمكان، فقد يكون التعامل مع بعض المنظمات الدولية مفيدا في مرحلة ما أو قضية ما، فالخير في التواصل والتفاعل معها، وقد تكون المصلحة في مقاطعة هذه المنظمات في مرحلة ما أو في قضية ما؛ منعا لضرر أو فساد أكبر مترتب على هذا التعامل، "فالأمر عائد إلى الترجيـح بين طرفي المصلحة والمفسدة، الحاكم على الأفعال بحسب الغلبة، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب: فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفا"
>[15] .
وعموما، فإن نسبة المصلحة والمفسدة ليست قضية ثابتة أو مطلقة، وإنما هي متغيرة وفق اعتبارات الزمان والمـكان، ويبقى للقـائم على الأمر أو صانع القرار دور بارز في الموازنة بين النفع والضرر، انطلاقا من القاعدة الفقهية التي تنص على أن "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"
>[16] .
[ ص: 83 ] 4- قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب":
لا خلاف في أن تحقيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، خاصة المقاصـد الضرورية (الضروريات الخمـس وتحقيق العدالة)، والتي أشير إليها سابقا، أمر مطلوب وواجب، وبالتالي، أقر العلماء بأن الوسائل الشرعية التي تحقق هذه المقاصد واجبة؛ إذ إن "للوسائل حكم المقاصد".
ويشير الشاطبي في كتابه الاعتصام إلى أن "حاصل المصلحة المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين، وأيضا مرجعها حفظ أمر ضروري من باب "ما لا يتم الواجب إلا به". فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد"
>[17] .
وقد تبين سابقا أن العدالة والمساواة والصالح الإنساني العام هي من مقاصد الشريعة، وبالتالي فإن أي تعاون مع أية دولة أو كيان دولي لتحقيق ذلك هو أمر مطلوب شرعا. ومن هنا، فإن التعاون مع المنظمات الدولية أمر يدخل في المنظور والسياق الإسلامي ورؤيته الحضارية طالما هو يصب في تحقيق المقاصد العامة للشريعة، ويعتبر هذا التعاون وسيلة لتحقيق بعض هذه المقاصد، مثل: تحقيق الأمن الإنساني (حفظ النفس)، وإعمار الأرض، وغيرها.
[ ص: 84 ] 5- قاعدة "المشقة تجلب التيسير":
يقوم المنظور الحضاري الإسلامي على فهم أو فقه الواقع، وتأثير الفاعلين في تحقيق مقاصده الإنسانية، والواقع يحتوي على نظام إنساني تتصارع فيه الكثير من المصالح وقوى العدل والظلم، وهناك الضعيف صاحب الحق، والقوي المستبد. وفي كثير من الأحيان واقع الضعف يفرض معادلات غير عادلة من الأقوياء، ويتطلب هذا الواقع تعاملا تدريجيا وتخفيف المشقة في سبيل تحقيق ما أمكن من العدل والمقاصد الإسلامية في الحياة.
ومن هنا، فإن قاعدة المشقة تجلب التيسير تشكل إحدى القواعد التي يقوم عليها المنظور الإسلامي تجاه العلاقات الدولية، بما فيها المنظمات الدولية، وتقوم هذه القاعدة على أحكام التيسير والرخص الشرعية الثابتة باستقراء وتتبع الجزئيات الفقهية والاستخلاص من القواعد والمبادئ الكلية، وليست مبنية على ما يمليه العقل ويبينه الهوى،... ثم إن المشقة الجالبة للتيسير هي المشقة غير المعتادة، الـتي لا يقـدر عليـها المكلف، أما المشقـة المعتادة فلا مناص منها، وهي من طبيعة الحيـاة ومستـلزمات أي فعل بشري، خيرا أو شرا، منفعة أو مضرة
>[18] .
[ ص: 85 ]
إن الواقع (واقع الضعف السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي) للأمة الإسلامية، وطبيعة السياسة والقوى الدولية المحيطة، وعجز هذه الأمة عن الفعالية ورد المظالم الدولية عنها وعن حقوقها، هو واقع مشقة تؤثر على حياة الأمة ودولها وأفرادها، وهو تأثير كبير، فيه الكثير من القهر والاضطهاد والظلم وتضييع الحقوق.
من جانب آخر، فإن بعض المنظمات الدولية إما تكون أدوات لهذه المظالم أو القهر، أو أدوات يمكن الاستعانة بها لتخفيف ورد بعض المظالم والعدوان، أو جلب بعض التيسير.
ومن هنـا، فإن التعامل مع بعض هذه المنظمات، والعمل على توجيه جزء من قراراتـها تجاه الأمـة الإسـلامية توجيـها إصلاحيا وبناء، يجعـل منها وسيلـة إيجابية للتخفيف والتيسير على الأمة من شراسة بعض قوى الاستعباد والقهر الدولي، وذلك من خلال حالة "التدافع" في النظام الدولي وقوانينه، واستخـدام أدواته التي تسمح، أحيانا، بدفـع بعض الأذى والضـرر. وإن كانت في أحيـان أخرى هي سبب من أسبـاب أو أدوات المظـالـم؛ ولكن جلب المصـالح ودرء المفاسـد لا يمكن أن يكون كامـلا، وغـالبا ما يخضـع للموازنة وغلبة المصلحـة وتعظيمها ما أمكن، في ضوء واقع الضعف الحالي للأمة.
[ ص: 86 ] 6- الاستحسان
>[19] :
من مصادر التشريع الإسلامي "الاستحسان"، وهو مصدر يعكس مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على التكيف والاستجابة لمستجدات ومتطلبات العصر في سبيل تحقيق مصالح العباد. واختلف العلماء حول مضمون تعريف الاستحسان، أو مدى القبـول به كمصـدر تشريعي، إلا أن ذلك الخلاف هو ضمن دائرة الاجتهاد؛ مما يفتح المجال ضمن دائرة الرخص والسعة الإسلامية، سواء من حيث القبول أو اتباع رأي مجتهد دون آخر، وهو يعتبر رخصة إسلامية ضمن ضوابط شرعية.
وفيمـا يتعلق بمفهـوم أو تعريف الاستحسان، يقول الإمام الشـوكاني: "اختـلف في حقيقته، فقيل: هـو دليل ينقدح في نفس المجتهد، ويعسر عليه التعبير عنه... وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى، وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، وقيل: هو تخصيص قياس بأقوى منه، وقيل: هو استعمال مصلحة جزئية في مقابل قياس كلي"
>[20] .
[ ص: 87 ]
ويعرفـه البوطـي بأنه: "استثناء خاص من قاعـدة اقتضاه دليل شرعي صحيح"
>[21] .
ويشير القرضـاوي إلى أنه "في هذه التعريفـات كلها لا نرى أثرا للحـكم بالتشهي أو الهوى أو الرأي المجرد، بل لا بد من دليل شرعي خاص، يستند إليه المجتهد في عدوله بحكم المسألة عن نظائرها، أو عن مقتضى الدليل الكلي"
>[22] .
يقـول الشاطبـي: "إن الاستـحسان غير خـارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه نظر في لوازم الأدلة ومآلاتها"
>[23] . ويقول أيضا: "فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك"
>[24] .
ويمكن استكمال هذه المقاصد ببعض أقوال أهل العلم في أهمية وطبيعة وضرورة الاستحسان، إذ يشير أحد الباحثين إلى أن "الاستحسان
[ ص: 88 ] هو تقرير لقاعدة الاستثناء الشرعية المعتبرة، فقد أقرت الشريعة الإسلامية كثيرا من الاستثناءات على خلاف القواعد العـامة والمبادئ الكلية؛ وذلك لأن جريان العموم في الأفراد والمسائل المستثناة مضيع لمصالح أهم من مصـالح بقائها في قواعدها العامة، أو موقع في مفاسد أعظم من مفاسد استثنائها
>[25] .
وجاء عن العز بن عبد السلام قوله: "اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة، تجمع كل قاعدة منها علة واحـدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسـدة تربو على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السـعي في درء مفاسـد الدارين أو أحدهما، تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثـم استثنـى منها ما في اجتنابه مشقة أو مصلحة تربو على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمة بعباده، ونظر لهم، ورفق بهم"
>[26] .
ويستند الاستحسان في بعض صوره إلى العـرف، ولكن العرف الذي لا يعارض أصلا شرعيا أو مقصدا معتبرا. وهنا تظهر أهمية استخدام قاعدة الاستحسان المستند إلى العرف، الذي يرتبط بالتعامل مع ما يسمى "الأعراف الدولية" السائدة في تنظيم العلاقات بين الدول أو مع
[ ص: 89 ] المنظمات الدولية، فإن الاستحسان المستند إلى الأعراف قد يحكم المنظور والتعامل الإسلامي وعلاقاته مع المنظمات الدولية بما لا يعارض أصلا شرعيا أو مقصدا شرعيا أساسيا، أي بما لا يتعارض مع الضوابط الشرعية لاعتماد العرف.
خلاصة الأمر، إن واقع الضعف العربي والإسلامي في مختلف مجالات الحياة، وشدة الحاجة والاعتماد على الدول القوية المتقدمة في مختلف متطلبات الحياة، يجلب موضـوع المصـلحة (مصلحة الأمة الإسلامية)، أو الضرورة (المرتبطة بتوفير الاحتياجات الأساسية لمتطلبات الحياة)، وموضوع رفع الحرج (في ضوء الضعف أو العجز الإسلامي عن فرض قواعده وقوانينه وخضوعه قهرا إلى قوانين دولية قد لا تنصفه ولا تكون عدلا في حقه)، تجعل من قاعدة الاستحسان المستندة إلى هذه العناصر أمرا لازما وضروريا ولا يمكن الاستغناء عنه لتحقيق أبسط متطلبات الحياة للأمـة، والمحافظـة على مسـيرة وجودها، أو عملية بنائـها وتنميتها أو تطويرها. ولا شك أن هذه القاعدة تتكامل، وأحيانا تتداخل، مع القواعد الأخرى، التي تمت الإشارة إليها سابقا.
[ ص: 90 ]